فى هذه الأيام نلحظ حراكاً متسارعاً فى المشهد الليبي، يجب علينا رصده وتفكيك بنيته وإيضاح مدلولاته، والتقاط نُتفه من خلال التصريحات الصحفية والبيانات السياسية والدسائس التي تُحاك من وراء الكواليس، محاولين رتقها وتحويلها الى لوحة قابلة للفهم حتى تتسنّى دراستها وتبيان المسكوت عنه فى مضامينها الخادعة.
لذلك سنسرد بعض الأحداث والوقائع التي اكتنفت المشهد السياسي، ثم نحاول إيجاد العلاقة فيما بينها واستخلاص النتائج التي ترتبت أو سوف تترتب عنها:
1.بعد اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس وتسقُّط الأخبار ذات العلاقة ومتابعة الأحداث تبين أن الإسلاميين ضالعون فى حادثة الاغتيال، ولا نقصد بهؤلاء الإسلاميين المتطرفين فقط وإنما حتى أولئك الذين اعتقدنا أنّهم معتدلون، والدليل على ذلك اعتراضهم على مساءلة ومحاكمة أطراف شاركت فى الجريمة، وتهديدهم المُغلف بفكرة التلاحم الوطني فى هذه المرحلة. وهذا لا شك أمرٌ جلل لأن التلاحم الوطني لا يعني خلط كل المكونات التي تفصل بينها الثوابت الأخلاقية وصهرها فى زكيبةٍ واحدة يتداخل فيها المجرم والضحية والثائر وقاطع الطريق. فالثورة ليست تجمعا لعصابات القتلة الذين يقفون فوق القانون وتتم حمايتهم من الجزاء باسم الثورة، لأنّ الثّورة تفقد بذلك أهم سماتها التي هي رفع الظلم وإحقاق العدل. ويستتبع ذلك سقوط كل الشعارات التي رُفعت من أجل الحرية والديموقراطية والكرامة.
2.إن ما صرّح به السيد فوزي بوكتف لوكالة الأنباء الفرنسية -وهو من الإسلاميين الذين تعسكروا بعد الثورة- ومفاده أن المطالبة بإنشاء جيش وطني ليبي لا يمكن تحقيقها فى هذه اللحظة التاريخية بدعوى تشتيت الجهود وإضاعة الوقت، أمر مثير للارتياب. فكلامه يعني بمفهوم المخالفة أنّه يريد منّا أن نسلّم مصائرنا كليبيين لميلشياته الإسلامية المسلحة، وهو بذلك يخطط للاستيلاء على الدولة وتفصيلها على مقاس جماعاته بعد سقوط النظام وفي غياب جيش وطني.
3.لننتبه إلى المكالمة المسجلة التي هدد فيها اسماعيل الصلابي، وهو أحد القادة الميدانيين الإسلاميين، شباب ثورة 17 فبراير وحدد لهم أجلاً معينا للرجوع عن مطالبهم التي دبجوها فى بيان صدر عنهم.. وإلا نالهم على يد ميلشياته سوط العذاب. هذه المطالب تتضمّن تسع نقاط أهمها ضرورة الكشف عن ملابسات اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس، وإيقاف العناصر التي لها علاقة بالجريمة ومحاكمتهم محاكمة عادلة، وإصلاح المجلس الوطني وإعادة تشكيل المكتب التنفيذي، وضم كافة المليشيات المسلحة فى جيش نظامي .
هذا التهديد يشي بأمور فى غاية الخطورة، أوّلها أنّ الشباب الذين أشعلوا الثورة وكانوا وقودها أصبحوا غرباء عنها بفعل الميلشيات الاسلامية المسلحة التي ركبت عربة الثورة فى ربع الساعة الأخيرة. والأمر الثاني أنّ هذا التّهديد يدل على ان السيد الصلابي وقواته يخططون منذ الآن لمصادرة الحريات وتكميم الأفواه تمهيداً لاحتكار السلطة التي لا تزال فى منأى عن الجميع.
4.إن المكتب التنفيذي الذي زُورت إرادته ودُلست قراراته فى حادثة اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس كان مكتبا يحوي كثيراً من الشخصيات الوطنية، ولكن هذه الشخصيات كانت لا تملك من أمرها شيئا، لأن الحقائب المهمة كالداخلية والدفاع كانت فى أيدي المتطرفين من الناحية العملية: حقيبة الداخلية الموكلة للسيد الضراط كان يسيرها فعلياً السيد الساقزلي المعروف بانتمائه إلى الحركات الإسلامية، بل إنّ الأمر ذهب به إلى إعلان نفسه وكيلا لوزارة الدّاخليّة فى احدى المقابلات المتلفزة. وذلك يعني أنّه لم يمتلك الجرأة على تسيير الوزارة بدون حق فحسب، بل تجاوز ذلك إلى تعيين نفسة في منصب لم يقرّه المجلس الوطني. أما وزارة الدفاع التي يشغلها السيد الدغيلي، فمن يملك القرار الأخير فيها هو السيد عبد الحكيم الخويلدي القادم من افغانستان والذي ينتمي إلى quot;الجماعة الليبية المسلحةquot;، فقد انتزع لنفسه مقدرات هذه الوزارة ليمد أتباعه فى ساحات القتال بالمال والسلاح. أما الآخرون فما كانوا يحظون من هذه الوزارة بأي مساعدة.
5.إن الأسلحة التي حصل عليها المجلس الوطني لم تكن تودع فى مخازن عمومية تحت اشراف المجلس الوطني أو وزارة الدفاع، وإنما كُلف بتخزينها وحراستها احد الإسلاميين، وهو يدعي بن اسماعيل، ويحتفظ بها الى هذه الساعة فى مزرعته الخاصة. وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أن الإسلاميين أضحوا يمتلكون السلاح وسلطة القرار وأصبح رئيس المجلس الوطني ومسؤولي الحقائب المهمة فى المكتب التنفيذي ألعوبة فى أيديهم.
6.أما محادثات السيد على الصلابي مع سيف الإسلام القذافي حسب إفادة هذا الأخير فما كنا نصدّقها واعتبرناها فى حينها محاولة لشق الصف، إلا ان اغتيال اللواء عبد الفتاح ووجود قائمة معدة للاغتيالات السياسية تتضمن ستين شخصية من غير الاسلاميين، يجعلنا فى حيرة من أمرنا بين التصديق والتكذيب. لكنّ اليقين فى حسن النوايا أصبح للأسف عرضة لسهام الشك. .
بعد سرد هذه الحوادث والوقائع تبرز الأسئلة المشروعة التّالية:
1.هل نحن بصدد تحرير بلادنا من الديكتاتورية أم بصدد بناء ديكتاتورية أخرى على أنقاضها؟
2.لماذا سُرقت الثورة وانحرف مسارها من أيدي الشباب الذين قاموا بها، والذين لا يريدون غير دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطية؟ لماذا سرقت من قبل منظمة إسلامية أممية لها مصالحها العابرة للحدود ولها أيديولوجية عصية على الاستنبات فى الزمان والمكان الليبيين؟
3.ما هو مستقبل ليبيا فى الدور المتزايد للجماعات المتطرفة غير المؤمنة بالديموقراطية والتي تتخذ من ذريعة قتال الديكتاتور تقية لتستحوذ على الوطن بكامله؟
4.ما هي القوة الحقيقية لهذه الجماعات داخل المجتمع المدني أو الأهلي إذا استثنينا ترهيبها المسلح للمواطنين وجعجعتها التي تفوق وزنها النوعي؟
نجيب على هذه الإسئلة بأن الجماعات الإسلامية كشفت عن وجهها وكشرت عن أنيابها ، وهي تعمل من أجل مصادرة الثورة لمصلحتها الإيديولوجية وسوف تحاول بكل الطرق إقامة ديكتاتورية أخرى بقوة السلاح الذي يتدفق عليها من بعض الدول ذات الأجندات الخاصة، أو من بعض الشخصيات الليبية التي تحاول تبييض أموالها المسروقة بالتجائها الى الجانب الذي تعتقده الأقوى من أجل حمايتها من المساءلة مستقبلاً.
إن على الشعب الليبي وعلى الشباب خاصّة أن ينتبه الى هذه الجماعات، ولكن بموضوعية ونظرة وطنية. إن الجماعات الإسلامية المختلفة لا نستطيع ان نضعها فى سلةٍ واحدة، فمنهم المتطرفون ومنهم المعتدلون. فبعض الأخوان المسلمين مثلاً هم إخواننا فى الوطن والمصير، وإنهم طيفٌ من الأطياف السياسية التي من حقها ان تساهم فى الحوار السياسي وأن يكون لها دورها فى بناء الوطن، ولها دورها الذي ينبثق من صناديق الاقتراع الديموقراطية، ولكن هذا لا يمكن أن بييح لها احتكار الثورة الذي يعني احتكار الدولة ومستقبل الشعب لاحقاً.
فيجب أن يستعد الشباب للحوار السياسي معهم، ولكن بدون قرقعة سيوفهم التي ستتحول الى نحورنا بعد سقوط النظام. لهذا السبب يجب ان يطالب كل الليبين الشرفاء ببناء جيش وطني ذي عقيدة ديمقراطية وفي أقرب الآجال، فهو الوحيد الذي يكفل إبعاد شبح التغول علينا واستضعافنا والتحكم فى مصائرنا. هذا المطلب هو الذي يرفضه بعض الإسلاميين على لسان السيد فوزي بوكتف.
نحن مع شباب الثورة الذي يطالب بالكشف عن ملابسات اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس ومحاكمة الوالغين فى هذه الجريمة، فهذا موقفٌ أخلاقي قبل أن يكون موقفا سياسيا، وعلى السيد اسماعيل الصلابي أن يسحب تهديداته لشباب 17 فبراير لأنها تهدف الى التستر على جرائم قد تكون جماعته ضالعةً فيه، كما نحاول أن ننبه الى أن ثمة دائماً مجال لفرض القانون وإقامة العدل حتى فى أتون المعارك وعند احتدام القتال. وإن إقامة العدل ليست مطلباً للثورة فقط بل إنّها تعتبر من أسمى مقاصدها.
يجب الا نتعب أبدا من تكرار النداء لإخواننا فى الوطن أصحاب الأيديولوجيات المختلفة بأن الوطن يستوعبنا جميعاً بدون إقصاء لأي جماعةٍ أيّا كان هواها السياسي ما دامت تؤمن بالدولة المدنية الديمقراطية وحقوق الإنسان التي لا تُمس.
إن المجتمع القادم لو قُدر له التحقق يجب الا يُقصي غير أولئك الذين يريدون مصادرة الدولة وإخضاعها لسلطانهم، فأتمنى من إخواننا من الإسلاميين المعتدليين الا يفكروا فى القضايا الوطنية بمنهجية الإقصاء للمختلف، وليتهم لا ينحون نحو جناحهم التكفيري الذي يعتقد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة فيقودهم ذلك إلى تكريس الاستبداد المطلق.
- آخر تحديث :
التعليقات