بتاريخ 27 أوجست 2011 م كانت الجالية السورية في مونتريال في كندا على مائدة الإفطار جماعيا، توجت ببرنامج من متحدثين، وفي النهاية بنشيد جميل من حنجرة ذهبية. أما أنا ففوجئت بالحضور يطلب مني الحديث! جمعت أفكاري بسرعة ويمكن أن اختصر النقاط التالية حول الثورة السورية.


1 ـ مايحدث في سوريا أمر لا يحدث إلا كل ألف سنة مرة (ضربة الميلينيوم Mellinium).
ليس ثمة إلا اتجاه واحد بمتابعة الثورة حتى ولادة سوريا الجديدة. ويجب استيعاب أن سوريا تستقل فعليا الآن وعلى نحو يذكر بولادة الأم ونزف الرحم مع انقلاع المشيمة. لكن نظام البعث يبدو أنه لايريدها ولادة طبيعية بل عملية قيصرية وعملية نازفة جدا تمنينا أن لاتحدث ولكن التمنيات غير الوقائع، والنظام البعثي يعتبر أنه أخذ السفينة غصبا، وعلى الرجل الصالح مع موسى ان يثقبوا السفينة كي تعود لمساكين يعملون في البحر.
كل تقدم هو باتجاه أرض الحرية، وكل نكوص عنه هو عودة للعبودية.
ظهر هذا واضحا لرسام الكاريكاتر فرزات الذي كسرت يده التي بها يرسم، والجندي المنشق بتعبيرات جلفة : ولا .. تريد تتمرد على أسيادك..
سوريا في حالة عبودية منذ عام 1963 وهي تغرق في هذا المستنقع القذر فتفقد إنسانيتها كل لحظة.
لقد سأل بنو إسرائيل موسى بعد أن جاوزوا البحر ورأوا قوما يعكفون على أصنام لهم أن يجعل لهم آلهة كما لهؤلاء آلهة، وأنهم عافوا المن والسلوى واشتهوا من جديد بصل وثوم الفراعنة فكان جوابه اهبطوا مصرا فإن لكم ماسألتم.
الحرية لها غذاؤها النقي وماءها السلسبيل.
وهذا يذكرني بفكرة المؤرخ البريطاني توينبي في حديثه عن صدام الحضارات الألفي. نحن هنا أمام ولادة جديدة للأمة. نحن محظوظون أن كنا شهودا على ولادة نادرة. في القرآن حديث عن موت الأمم وهو أمر غريب؛ فنحن رأينا أو عاصرنا موت الأفراد أما موت الأمم فهو أمر جديد علينا.
نحن هنا مع الثورة السورية أمام ظاهرة ولادة أمة فوجب أن نقرأ ولادة الأمم تماما كما في موت الأمم. تقول الآية (لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون). يمكن الآن مع الثورة تبديل كلمة بكلمة فنقرأ (لكل أمة ولادة فإذا جاءت هذه اللحظة تشكلت الأمة وانقذفت من رحم الزمن).
نحن شهود الميلينيوم الألفية لولادة الأمة السورية من رحم التاريخ.

2 ـ الشعوب تنتصر دوما قصر الطريق أم طال كثرت الضحايا أم قلت.
هنا جدل هام حول علاقة الأمم والشعوب بالحكومات. الحاكم أو السلطة ليست الشمس بل هي القمر الذي يدور حول شمس الأمة. أهمية نظرية كوبرنيكوس في حركة الشمس والقمر لاتؤثر في حياتنا العملية بشيء؛ فنحن وحضارة المايا والفراعنة ننظر إلى شروق الشمس وغروبها لم تتغير، ولكن كوبرنيكوس غيَّر هذه العلاقة، ومعها انقلبت محاور التفكير، أن أهم المسلمات يمكن أن تخطيء.
جيلنا انحبس في مربع الزمن. وعائلة الأسد ظنت نفسها أنها ملكت الزمن فلا يتغير شيء، وستبقى الأمور كما هي إلى الأبد، كما جاء في شعاراتهم في عبادة الأصنام الحية، أنها تبقى إلى الأبد مذكرة بأصنام قوم نوح لا يذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا.
حين اندلعت الثورة الفرنسية كانت المفاجأة أكبر من التصور فقالوا أنها كانت أشبه بالخرفان التي تأكل الأسود. وهو ما أتت به الثورة السورية فقلبت محاور التفكير وأن الثورة أمر ممكن. ولو وضعت الأمة في براد الزمن نصف قرن.

3 ـ ماحدث في سوريا معجزة فاقت كل خيال:
جيلنا هو جيل التيه والخوف فقد وصلنا إلى القناعة التي تقول لن يتغير شيء، وأن أي تغير هو في حكم المستحيل، وأي اختراق لهذا الحاجز هو رؤية نبوية.
في أحسن الأحوال وضعنا إمكانية التغيير عبر القرن وتدريجيا وجزئي وخلال عشرات السنوات القادمة هذا للمتفاءلين، ويمكن للعالم العربي أن يتحول تدريجيا من النظام الملكي إلى نظام الهبريد الممسوخ بمجالس من القرود البشرية ـ عفوا مجالس الشعب ـ تحسن التصفيق وتغيير الدستور في ربع ساعة، بما يناسب حجم الديناصور الحاكم. بنشوء أنظمة حكم وراثية أمساخ من رحم الجمهوريات، كما حدث في سوريا في ابتداع نظام التوريث فجاء على سوريا بالكارثة.
كانت عملية الدمج بين الملكية والجمهورية أشبه بتجربة مزج جينات الفأر مع الإنسان فالتهمت جينات الفأر جينات الإنسان وانمسخت الإنسانية.
نعم تحولت الجماهير إلى مرتع القرود والخنازير وعبد الطاغوت. ومن رأى كيف كان يصفق مجلس القرود للرئيس المزور وهتافاتهم وقول أحدهم أنه ملك البرية والكرة الأرضية يقول لافائدة من هذه الأمة فقد تودع منهم!
ولكن ما حدث يحكي تلك الشرارة من النور الإلهي في داخل كل منا ولذا كان الانفجار في سوريا أقرب إلى المعجزة والخيال.

4 ـ النظام بنية موضوعية
ليس بشار الأسد سوى قمة جبل الجليد أو وجه هذه البنية المسخ. كما كان للكائن معدة ووجه وخرطوم طويل وذنب وثيل وحنجرة وخوار كذلك كان للنظام الأسدي يد يبطش بها ورجل إلى الشر ماض بها.
قد يقول قائل الرئيس لاذنب له إنما الحاشية! النظام هو وحدة موضوعية كما في أي كائن من معدة وفم وأسنان وأنياب ومخالب.
أذكر جيدا حين أخرجني رجل المخابرات من كراكون شيخ حسن الذي اعتقلت فيه وكانت الثالثة من الاعتقالات في دولة المماليك البعثية.
سألني ماتقول في مهنتنا نحن رجال المخابرات؟
قلت له: لقد حكم فيكم الرب المتعال!
فوجيء من سرعة جوابي وتحديده.
اضطرب قليلا وسأل بدهشة: الله قال فينا قولته؟
أجبت نعم. قال الرب إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين. وأنت من جنود فرعون!
شهق وقال وماذا تريدني أن أشتغل؟
أجبته اذهب إلى سوق الخضار وبيع البصل فهو أشرف لك من أخذ راتبك على التقارير السرية وجلد الناس.
رجال المخابرات هم كلاب جهنم بالتأكيد.
يقول النيهوم هل يحق للفأر أن يتشاءم إذا رأى قطة سوداء؟
حين وقعت حادثة الإفك عمم القرآن الذنب على سلسلة من البشر كما هو في سلسلة الأوامر في الجيش السوري الذي يقتل الناس (Chain of Command) فقال إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لكل امريء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم.
والعصابة الأسدية هي حلقة من فوق حلقة ولكنها مرتبطة بما يعرف من سلسلة الأوامر فتشمل الخطيئة كل الجهاز فتلبسه لبوس الإثم ظاهرا وباطنا، بدء من رأس الهرم وانتهاء بالمجند والشرطي والمفتي والبوطي فلكل امريء منهم ما اكتسب من الأثم.
كان المجرمون النازيون بعد الحرب يجيبون في التحقيق عن الجرائم التي ارتكبوها انهم بريئون وأنهم كانوا ينفذون الأوامر لا أكثر.
اليوم من يطلق النار، ومن يصدر الأوامر، ومن يوقع على البيانات كلهم في الإثم غاطسون إلى قراريط آذانهم بالسحت مع تباين الدرجات.
هناك من يقتل بالرصاصة، ومن يقتل بالفتوى، ومن يقتل بشهادة الزور مايمارسه المفتي ورجل الدين ومثقف السلطة.

5 ـ على الثورة السورية أن تعتمد ثلاثا وتتخلص من ثلاث:
النظام يحاول بغبار من الكلمات أن يتحدث عن الإصلاحات عسى أن يطيل في عمره فيجب فهم أنه يكسب الوقت لالتقاط أنفاسه.
والنظام يخوض معركة فيزيائية ـ إلكترونية، بقتل الناس بيد الشبيحة وتوظيف الأبواق، والاستعانة بكل شيطان أحمر وجني أزرق بما فيها منظمة آيباك الصهيونية.
والنظام ثالثا اعتمد استراتجية الحرب الشاملة ضد الشعب كاملاً. ولم يبق ثمة محرمات أمامه فهو يفعل كل شيء. باغتصاب النساء في حماة وقطع الأعضاء التناسلية للطفل حمزة الخطيب، وشج رأس الشيخ أسامة الرفاعي في كفر سوسة في صحن المسجد بعد اقتحام المسجد بـ (الصرامي) وكسر يد الفنان علي فرزات وهم يقولون هذه رسالة لك حتى تحترم أسيادك.
نحن هنا في منظومة السيد والعبد إذن؟
علينا إذن أن لانصدق النظام في حرف. علينا أن لانمد في عمره بلحظة بكل سبيل ممكن. علينا ان نهيء أنفسنا لحرب طويلة النفس، قد تمتد على الأقل حتى ربيع 2012 م، وربما تنقلب المرحلة الحادة إلى مرحلة مزمنة فتمتد الثورة سنوات. ولكن نصر الشعوب في النهاية مؤكد.
بل يجب أن نحمد الله على هذا العذاب؛ فهي المحنة التي تعصر الشعب السوري فتخرج الأمة من النار كما خرج إبراهيم فقال الرب كوني بردا وسلاما.
يجب أن نشكر النظام على أنه أتاح لنا هذه الفرصة أن تندمج الأمة وتتفق كما لم تندمج وتتفق من قبل.
حين كان قوم موسى يقولون له أوذينا من قبل أن تاتينا ومن بعد ماجئتنا كان يجيبهم عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون.
كل التحدي كما هو أيضا في وجه الليبييبن معركة بناء الوطن المستقبلي مع التحرر الفعلي والاستقلال الفعلي.
على الثورة السورية أن تعتمد ثلاثا: متابعة الكفاح السلمي فكل تورط في التسلح معناه نهاية الثورة.
وعلى الثورة الانتباه إلى مخاطر الولادة فليس من ضمانة لانحرافها أو خطفها أو حتى ولادتها مشوهة. كل الأمهات تضع أطفالهن وليس كل الأمهات تضع أطفالا سليمين.
وعلى الثورة ثالثا أن تتجنب التورط في إقحام قوى أجنبية طالما تستطيع متابعة الثورة بإرادة ذاتية. إنها قوة أخلاقية. إنها ستكون سرة العالم في التغيير. سوف تهتز الصين والقوى الطاغويتية في العالم. وسوف تقفز الشرارة السورية فتحرق أيضا نظام الملالي في إيران، كي تخرج إيران من السرداب التاريخي وتدخل أنوار الحداثة بعيدا عن معركة صفين والتجمد في مأساة الحسين رضي الله عنه.
لو كان النبي والحسين والحسن وعلي شهودا لقالوا لهم كفوا عن حمل الصليب إلى جبل الجلجثة وهوما سيقوله عيسى للبابا والفاتكيان والكرادلة.
يروي ويلز في المجلد الثالث من كتابه ملامح تاريخ الإنسانية عن تغير تعاليم المعلم يسوع الناصري البسيط إلى فلسفة معقدة بيد بولس الذي لم يكن حواري.
نفس الشيء بالتتبع نقرأ روح الثورة الإيرانية عند علي شريعتي الذي لم يبق من أثره شيء.

6 ـ يعتمد النظام في ضبط الأمور على ازدواجية من أدوات القمع:
تجمع بين الجيش والأمن مع الشبيحة، فإذا اشتدت فوعة المظاهرات احتل المدينة بالدبابات والمدفعية والمجنزرات وراجمات الصواريخ والبحرية والمروحيات والإنزال البري؛ فإذا خفت المظاهرات انسحب الجيش وترك من قوات الأمن والدبابات مايضبط الوضع.
يبدو أن هذه الخطة نجحت إلى حد كبير في لجم المظاهرات المليونية. وحتى تاريخ نهاية أوجست كانت حصيلة القتلى أزيد من ستة آلاف، وعدد المختفين حوالي ثلاثة آلاف، وعدد المعتقلين الإجمالي 38 ألفا مع خروج دوري للبعض وهم أنقاض من آثار التعذيب الممنهج.
وهناك من المحتجزين الدائمين من النشطاء أكثر من 12 ألفا. وقد نفاجيء باكتشاف إعدامات كثيرة في الخفاء. وهناك من روي لي ممن دخل درعا من جمعية أفاز (AVAS) أن هناك الكثير من المقابر الجماعية قد يؤدي التصريح عن أمكنتها إلى مسارعة النظام بإتلافها كوثيقة. كما حدث في الآلاف الذين قضوا نحبهم بأشنع القتلات في سجن تدمر، ثم أخفيت آثارهم وطحنت عظامهم وذر رمادهم في عرض الصحراء.
إن نظام البعث دموي جدا. ماذا تتوقع من أنياب الأسد. قال بعض الصيادة أن مسكينا وقع بين براثن عائلة أسدية فلم يبق من أثره سوى حزامه الذي لم يستطيبوه. بكل بساطة مضغوا لحمه وطحنوا عظامه والتهموا جلده في وجبة لذيذة وبقي الحزام أثرا من الوجبة الأسدية.
بكلمة مختصرة لقد أعلن النظام الحرب على الأمة وصب جام غضب الفرقة الرابعة على الشعب ومعه الحرس الجمهوري وليس من راق.

7 ـ الجيش السوري جيشان:
واحد صغير منضبط جدا، منتخب جدا في الولاء، مسلح جدا حتى الأنياب والأظلاف، مدرب جدا بيد الإيرانيين والروس، تعداده في حدود سبعين ألفا، مقابل الجيش الآخر بتعداد 300 ألفا، مع نصف مليون مخبر سري، مهمته الأساسية إبقاء عرش العائلة الأسدية إلى أطول لحظة بأي كلفة، ولن يتوانى عن استخدام أي سلاح من أجل هذه المهمة التاريخية. يخضع في كل هذا إلى دماغ استراتيجي بتدريب ألماني من الاستازي القديم لدولة ألمانيا الشرقية الاستخباراتية (DDR) يخوض معركة البقاء الأخيرة للنظام الأسدي. وكل أموال الشعب السوري كانت لتسليح مثل هذا الجيش الانكشاري لمثل هذه الساعة لحفظ العرش الأسدي.
ومهمة الجيش الحالية ليست نشر الخوف كما فعل الأب من قبلk بل رفع سقف الخوف إلى الذعر والفزع الأعظم.
هذا مافعلوه باجتياح درعا وبانياس واللاذقية ودير الزور وحمص وكفر نبل وداريا ودوما، وحماة من جديد فنكشوا جراحا قديمة.
المشكلة كما يقول المؤرخ البريطاني (هـ . ج. ويلز) في كتابه (معالم تاريخ الإنسانية) أن الأنظمة التي تملك الشعوب بقبضة من حديد تحوِّل الشعوب إلى حديد.
تحدثت مجلة (در شبيجل) الألمانية عن هذه النقطة بما يحدث في الرياضيات فحاصل ضرب سالب في سالب يتحول إلى موجب، ومزيدا من التخويف يحرر الشعوب من الخوف. تماما كما يتورط مدرب السيرك بتخويف الأسد بفرقعة السوط فيملكه؛ فإذا بدأ بالضرب الفعلي افترسه الأسد في القفص قبل وصول النجدة إليه.
يبدو أن الخرفان السورية سوف تفترس الأسد.
حين انهار نظام الستازي الألماني الشرقي كان نظام التجسس يقوم على عشرين ألف غرفة تنصت وملفات لكل مواطن. وكان كل مواطن جاسوس على المواطن الآخر. ولتعقب البعض كانوا يلجئون إلى أخذ خرق من رائحتهم فيضعونها في زجاجات محكمة الإغلاق فتحافظ على الرائحة لسنوات، ويمكن تعقب المطلوبين بكلاب مدربة على ذلك، وفي النهاية قاموا في يوم الزلزلة بمحاولة إتلاف بقايا الوثائق السرية بآلات القطع. تقول مجلة در شبيجل الألمانية إنها آلاف الأكياس تحتاج لعملية تجميع القطع (Puzzel) في عشرات السنوات ولكن تبقى وثائق ثمينة. سمعت عمن شهد الإعدامات الجماعية في تدمر ممن خسر والده في المذبحة قد كرس حياته الأن كما فعل وايسمان في النمسا في توثيق جرائم النظام الأسدي الذي يلفظ أنفاسه الآن. في فيلم الهولوكوست أرادت حبيبة الشاب أن تصرف بصره عن إعدام قريب من سبعين ألفا في تلك المنحدرات صرخ بل يجب أن تتثبت في عيني وذاكرتي فلا تمحى. المهزلة في تاريخ الشعوب أنها قصيرة الذاكرة فوجب التوثيق.
مفاجأة من هذا النوع هي بانتظارنا مع تدمير نظام البعث وتفتييت نظام الاستازي السوري وكمية الوثائق. كنت في زيارة لظافر اليوسف من الاستخبارات العسكرية بعد دخولي سوريا في التسعينات وأنا مصدق أن الأمور تغيرت. هذا قبل أن أنفض يدي إلى الأبد من ديار البعث إلى يوم البعث! سألته عن صديق لي في أمريكا كنيته الشعار طلب من الحاجب إحضار الملف. خلال دقائق كان الملف على الطاولة. غرقت في التفكير أين هي مئات الآلاف من ملفات المواطنين السوريين التعساء؟ حقيقة تمنيت أن أعرف سراديبهم وكهوفهم السرية!

8 ـ علينا استيعاب حقيقة الحرية والاستعمار. والفرق بين الاحتلال الخارجي والاستبداد الداخلي:
نحن شعوب لم تتحرر، واستبدلنا الاحتلال الخارجي بالاستبداد الداخلي وهو أدهى وأمر. الاحتلال الخارجي يشبه التهاب الجلد الخارجي محمر، مؤلم، منتبج، سريع التشخيص، واضح البداية والنهاية، ومعالجته سهلة. كذلك جرى الأمر في مقاومة جنود الاحتلال.
أما الاستبداد الداخلي فهو أشبه بالسرطان، خفي، غامض البداية، غير مؤلم، يترقى على غفلة من المريض والطبيب، حتى إذا كشف كانت معالجته دموية جدا، وقد لاتنفع أحيانا إلا بمعالجة كيماوية وشعاعية وهورمونية.
نظام البعث الدموي أشبه بسرطان الدم منتشر في كل نسيج يحتاج إلى معالجات منوعة، والتحدي كبير في التخلص منه، بقطع مصادر التموين والضغط الدولي والرهان على الانشقاق الداخلي لدماغه فينفلق، وعمليته نازفة جدا كما رأينا حتى اللحظة. وأمامنا قائمة هائلة من القتلى والمختفين والنازحين والمنفيين من الخائفين بالملايين من أمثالي والمناع وغليون.
سوريا تمثل كارثةعارمة مع السرطان البعثي كما نرى.

9 ـ النظام السوري ليس الوحيد في المعركة:
على الثورة أن تفكك عناصر اللعبة السياسية في المنطقة جيدا، فسوريا تقوم بأدوار كبيرة في المنطقة، وليس من حليف أفضل لها من إسرائيل وبالعكس، فأمْن إسرائيل من أمن سوريا كما قال المخالف خلوف وخالف. أعطاها الأب الوعد أن لايطلق من الجولان طلقة واحدة في ثلاثين سنة وأوفى بالتزاماته بحرفية جيدة من بعده الابن، وليس من ضمانات لمن سيكون القادم في حال نجاح الثورة أفيبيعون الملعوم بالمجهول؟، مع جار آمن من بوائقه مثل النظام السوري.
على الثورة أن تعلم أن خصومها في الحرب كثيرون، وهذا يفسر الثمن الباهظ الذي دفعته، وسوف تدفعه في الفترة القادمة. إنه كلام ليس للتثبيط بل الواقعية. فليس مثل الحقيقة وجعا ومرارة.
وربما على الثورة أن تخوض حربا سياسية ليست بالسهلة لإقناع كل من إيران وروسيا والصين وحزب الله وحماس بنفض أيديهم من نظام طاغوتي إجرامي.
يقول الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه: التشاؤم علامة انحطاط. والتفاءل سذاجة وسطحية. والحقيقة هي الولادة من رحم المعاناة.
ولقد خلقنا الإنسان في كبد ومكابدة.

10 ـ هناك يقين في الثورة السورية ولا يقين.
يقينها ان الشعب السوري تغير وإلى الأبد أما اللايقين فإلى أين ستصير الأمور.
إن إلقاء قطعة النقد المعدنية في الهواء تجعلنا نعتقد يقينا أنها سوف تنزل على الأرض. كما تقول لنا و(لا يقينا) أننا لن نحكم على الوجه الذي سوف تنزل عليه أيا سيكون. والسبب هو وجود أربع عناصر تتحكم في اللعبة، وكل عنصر مرتبط بدوره بعناصر لانهائية. العناصر الأربعة هي نوع القطعة المعدنية ومعدنها. قوة القذف. والوسط الذي تخترق. والسطح الذي سوف ترسو عليه.
هنا يتدخل قانون الجهد وأن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
سوريا تغيرت وسوف يغير الله مابها.


11 ـ ماحدث في سوريا يخضع لقانون الأثر والاستجابة:
كثير هي الأفكار التي تتحدث عن قوى خارجية تحرك الوسط الداخلي السوري وهي حجة النظام القميئة.
ينفعنا علم الفيزياء في فهم الظاهرة السورية فإذا عرضنا خمس أوساط للحرارة أخذنا نتائج مختلفة. إذا سلطنا النار على الماء والشمع والحليب والبنزين والبارود تبخر الأول وذاب الشمع وفار الحليب والتهب البنزين وتفجر البارود! أليس كذلك
كنت في منجرة خشب في مدينة الجديدة المغربية حين قال لي النجار (علي) نفس الشيء أجبته لو أقلينا عود ثقاب في برميل ماء انطفأ أليس كذلك؟ وإذا ألقيناها في منجرتك احترقت أليس كذلك!! لجمته الحجة ولكنه لم يقتنع.
القناعة تحتاج لعقل وتجربة خاصة وتحليل وليس كل إنسان يملك العقل الحصيف والتحليل الدقيق ومقارنة الوقائع وإعادة النظر في الأحداث بمسبار العقل النقدي.

12 ـ ماحدث في سوريا لم يكن ممكنا لولا المخاض العربي الكبير:
لو حدث ماحدث في سوريا منفردا لسحقت الحركة في أيام فالنظام السوري ولغ في الدماء جدا، وقتل مئات الآلاف وهجر الملايين بكارثة عارمة تقترب من عمل الصهاينة والنازيين، وأحصى أنفاس المواطنين فلا يفوته دبيب نملة أو طنين نحلة ولا تأخذه سنة ولانوم.
النوم يعني هلاك وتفتت دولة المخابرات، والنعاس يعني الكارثة، فهو قد وضع يده على الزناد مقلدا الثعلب بعين نائمة وعين غير نائمة.
كنت في القامشلي في التسعينات أراجع الفروع الأمنية في السياسي كان المحقق قد وضع الكلا شنكوف جاهزة للإعدام خلف ظهره.
تفاجئنا الفيزياء بقانون الارتياب واللايقين .
ويقول درس التاريخ أن دولة آشور ماتت مختنقة في الدرع كما يقول توينبي؛ فقد كان تتفقد درعها وسيفها دوما، فأتاها الله من حيث لاتحتسب، ودمرت تدميرا فلم يعرف الناس عنها شيئا، ونسيت في أسفار ومقابر التاريخ حتى اكتشفها هنري ليارد في القرن التاسع عشر ومعها مكتبة عملاقة بالخط المسماري.
العالم العربي كله يتمخض، والرحم العربية تلد توائم مثنى وثلاث ورباع، نجحت بسرعة في تونس، وأنهت الثورة المصري بأناقة خرافية المرحلة الأولى من مهمتها في 18 يوما، ولكن ليبيا احتاجت ستة أشهر، وما زال المخاض اليمني مثل الأم خرج رأس الطفل من الرحم ولم يولد بعد، أما سوريا فنحن أمام عملية قيصرية نازفة وليس من طبيب حتى الآن.

13 ـ إذا أرادت الثورة السورية ان تدخل خشبة مسرح التاريخ عليها أن توجد من يمثلها بمجلس انتقالي:
يضم التكنوقراط ووجوه مهمة من كل أطراف المجتمع السوري وطوائفه من علويين ودروز ومسيحيين ومتدينيين وعلمانيين وإسلاميين وعرب من العشائر وأكراد ومن يصلي ومن يكفر من يصوم ومن يفطر.
القارب السوري إذا ثقبه واحد غرق الجميع. حين تاتي الكوليرا إلى بلد لاتسأل عن الهوية العقائدية والانتماء المذهبي بل الاستعداد للإصابة. سوريا معتلة بروماتيزم خبيث يعس في مفاصلها منذ نصف قرن في أحسن الأحوال، إن لم يكن سرطانا مريدا.
سوريا دمرت منهجيا فليس من دائرة بدون رشوة، وليس من مصلحة بدون (معلم) من المخابرات بحصة. قال لي اللحام أبو مرعي في النبك الذي كنت اصرف عنده المال إن أمامه مع نهاية كل شهر حصص مخصصة لعصابة لاتشبع من درزن من أفرع المخابرات يأتون لأخذ حصصهم. فوقها اللحم إكرامية!
حدثني أبو زكريا من حمص بعد أن جاء إلى بلد عربي لافتتاح مشروع مصنع حديد يأتي من أوكرانيا بعد أن اكتشف أنه لابد من دفع حصة لماهر الأسد وعصابته.
إن اختلاط السلطة والنفوذ بالتجارة انتبه لها ابن خلدون مبكرا حين أشار إلى أخلاق التجار الدنيئة مع أخلاق العلماء الذين يعفون.
إن خلط الوسخ مع النظيف لايبقى النظيف نظيفا.
مايسمى بالتنسيقيات داخل سوريا ليست من يسير المظاهرات. إنها أشبه الآن بوكالات إخبارية. إن من يسير المظاهرات غضب الجماهير ويأسها. وعلى الثورة أن تتجاوز مرحلة الانتفاضة إلى الثورة. مرحلة السلب إلى مرحلة الإيجاب. الغضب قد ينطفي مع شدة القمع ودمويته، أما العمل العقلاني فهو ابتكار رأس من المعارضة تبدأ التفاوض مع العالم الخارجي، فتنقل الانتفاضة إلى مرحلة الثورة وتقول للنظام: كش ملك . كما فاوض غاندي وعمر المختار القوى الاستعمارية وقالا لهما لقد انقضى وقتكم وبارت بضاعتكم.
وعلى مجلس المعارضة الانتقالي أن يقول للنظام لقد أصبحت كونسروة فاسدة لقد انتهت أيامك (you are expired).
لقد نجح الليبيون في ابتكار المجلس الانتقالي ليفاوض العالم وهي مهمة المجلس السوري الذي يجب أن يولد حاليا.
يجب أن تحشد المعرضة قوتها لتوليد هذا المجلس قبل أن تتحول الثورة إلى ثائر مقعد.

14 ـ دولة القانون والغفران:
على الثورة أن تتابع عملها بالكفاح السلمي، وبناء شبكات ضغط من الخارج في محاولة قطع مصادر الدم والتمويل عن هذا النظام الدموي.
لقد اشتركت أنا في مظاهرة مع بناتي وأخوة أفاضل ثوار في مونتريال أمام شركة سنكور البترولية الكندي بتاريخ 26 أوجست مما دعا رئيس الشركة ريتشارد جورج إلى الاتصال بابنتي عفراء لينقاشها ويأخذ رأيها حول شركته في دعم هذا النظام الفاسد.
من المهم جدا أن نفكر في دولة القانون والغفران لسوريا المستقبلية؛ فليس من حقد، وليس من انتقام، بل تقديم المجرمين إلى محاكم عادلة، ولذا كان من المهم من الجميع توثيق أسماء الأشخاص مع صورهم؛ فيمن ساهم في الإجرام بدء من رأس الهرم البعثي، وانتهاء بأي عريف وملازم حدثته نفسه أنه وقت سلب الناس وقتل المساكين واغتصاب النساء في غفلة عن الأعين.
علينا أن نقوم بالقسط كما قال رئيس المجلس الانتقالي في ليبيا عبد الجليل؛ سوف تقوم دولة القانون وانا أول من يُحَاكَم، لأنني كنت وزيرا في دولة القذافي أربع سنين.
حتى لو أمسكوا بالمهرج وعائلته فالمحاكم يجب أن تبدأ بالعمل والعدل.
وفي سوريا يجب أن نفعل نفس الشيء حتى ندخل التاريخ بعد أن شخرنا طويلا في استراحة المماليك البعثية.