علينا في هذا البحث التأسيسي أن نعرض ضفيرةً من الأفكار التي تشكل في بناءها التركيبي مفاتيح ضخمة لفهم الوضع الإنساني:
يظن كثير من الناس أن المجتمع هو (كم) من الأفراد فإذا تجمع عدد من الناس تولد المجتمع ، ولكن المجتمع في الواقع ليس (كومة) بشر و (خردة) من الأناسي، بل هو بالأحرى شبكة علاقات انسانية، و رصف خاص للتركيب الانساني على شكل لوحة فنية، و بناء معين (STRUCTURE) للنشاط البشري، فهو (شكل) و (وظيفة) بنفس الوقت، كما هو الحال في أي كائن حي فهذه فكرة أولى.
وبولادة المجتمع تتولد الدولة ويتم إفراز النظام السياسي كتحصيل حاصل، فالحكومة هي إحدى مؤسسات الدولة التي تتولى وظيفة القيادة والمسؤولية وهذه فكرة ثانية.
ومن أهم وظائف الدولة (احتكار) العنف فهي التي تمتلكه وتنظمه، هكذا كانت قديما وما زالت، وتمثل المؤسسة العسكرية العمود الفقري لآلة العنف، وبقدر نمو الوعي والتراكم المعرفي والسمو الأخلاقي تتراجع وتضمر مؤسسة العنف حتى يتخلص الجنس البشري من العنف كليةً (حتى تضع الحرب أوزارها) فهذه فكرة ثالثة.
والمؤسسة السياسية هي (المرآة) الاجتماعية فحكومات الشعوب هي أفضل قميص خيط وفصل عند أفضل خياط لها، ويترتب على هذا انقلاب في فهم العلاقات الاجتماعية يشبه انقلاب كوبرنيكوس ليس كونياً بل اجتماعياً، فكما أن الشمس لاتدور حول الأرض بل العكس، كذلك وفق هذا المفهوم لاينبغي قلب الحكومات بل تغيير الشعوب، والتغيير الاجتماعي لايبدأ من فوق بل في عمق البنية التحتية، والأصلاح السياسي هو ثمرة الثقافي، والتغيير لايتم بالنقش على ظهر المرآة بل يتشكل في التراكيب العميقة ضمن البيئة بتغيير المفاهيم الاجتماعية العميقة وأفكار الحفريات التي كونت التضاريس العقلية وتحولاتها الكبرى وهذه فكرة رابعة.
وفهم الانبياء لحقيقة (تشكيل الدولة) ووظيفتها، جعلهم يصبون جهودهم في التغيير الاجتماعي التحتي وبالطريقة (السلمية) وليس بالاطاحة العنيفة بالحكومات، والرسول (ص) قام بأعظم ثورة سلمية في التاريخ وهذا منهج مدشن وموثق عبر التاريخ لحركة الانبياء جميعاً فهذه فكرة خامسة.
وأمام التغيير الاجتماعي تبرز أربع لغات للتعبير الاجتماعي:
لغة شريعة الغاب، ولغة الديموقراطية الغربية التي تبيح العنف لصناعة الحكم وتحرمه بعد ذلك، ويشترك معهم الخوارج في هذا الفهم من التاريخ الاسلامي، واللغة الثالثة هي لغة الانبياء في صناعة الحكم الشرعي، فهي لاتصنعه بطريقة العنف المسلح، حتى لو أقامه من قبل من استخدم السيف ووصل الى الحكم باللاشرعية، فلايُصْلَح الغلط بالغلط بل بالصحيح، واللغة الرابعة والأخيرة هي لغة الانبياء بعد صناعة الحكم الشرعي حيث تجيز استخدام القوة المسلحة ضد من يستخدم القوة المسلحة لإكراه الناس على ترك عقائدهم وديارهم ( الخروج المزدوج ) ، فالمجتمع الاسلامي هو مجتمع اللاإكراه، فلايقتل الانسان من أجل آراءه، كائنةً ماكانت هذه الأفكار، كما لايقتل من أجل تغيير معتقداته، دخولاً أو خروجاً، فلايوجد قتلٌ لماسمي في التراث الاسلامي (المرتد)، لإن المجتمع الاسلامي هو مجتمع حرية العقيدة (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) فهذه فكرة سادسة سوف نفصلها بعد قليل.
وإذا كانت المجتمعات تشبه الكائنات الحية فهي إذاً تولد وتوجد، وتنحرف وتمرض، وتموت فتنقرض، ومرض المجتمع يعالج في تقويمه مرةً أخرى بالأسلوب السلمي كما بني وركب بالأصل، وكما بدأنا أول خلق نعيده فهذه فكرة سابعة.

******
إن أول تهمة وجهت للإنسان قبل خلقه أنه يسفك الدماء، ففي حوار الله مع الملائكة أنه سيوجد مخلوقاً يمنحه الخلافة، لم تر فيه الملائكة سوى الكائن القاتل والمخرب (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وعندما يستعرض الانسان التاريخ البشري فإنه يكاد يصدق هذه التهمة!!
فدورات الحرب في مدى (3500) سنة الفائتة أظهرت أن الجنس البشري حظي بعام واحد من السلام مقابل 13 عاماًُ من الحرب.
فهل يصح لنا أن نتكلم عن السلام في ضوء هذه البانوراما المحزنة ؟؟

*****
والآن إلى السؤال المركزي كيف يصنع المجتمع؟ وبأي أسلوب؟ هل يتم بالتغيير السلمي من خلال تغيير ما بالنفوس أم بالسيف؟ إن الإجابة على هذا السؤال المحوري سوف يلقي الضوء على مشكلة العالم الإسلامي الكبرى وكيف حرم من الحكم الراشدي وتحول الى مذهب الغدر وقنص السلطة الدموي في مسلسل محموم لاينته، فمع تبني العنف في التغيير سفك دم عثمان ثم قتل الامام علي، واذا كان الامويون قد انجبوا عمر بن عبد العزيز فان العباسيين عجزوا عن ذلك، وكانوا أرعب ممن قبلهم وأفظع، وتشابهت قلوبهم.