-1-
في اليمن انتفاضة شعبية ضد الرئيس علي عبد الله صالح وحكمه، الذي امتد حتى الآن أكثر من ثلاثين سنة منذ 1978.
وفي اليمن انتفاضة شعبية ضد توريث الحكم، كما جرى في سوريا المنكوبة، وكما كان سيجري في تونس، ومصر، وليبيا وغيرها.
فهل لا يحق للشعب اليمني الذي ثار على الإمامية المتوكلية الجاهلية (جهالة القرن العشرين) عام 1962 أن يثور على الرئيس الآن، ولأسباب مختلفة لا علاقة لها بالثورة على الإمام يحيى حميد الدين (1869- 1948) الذي اغتيل في الانقلاب الدستوري الفاشل عام 1948، بعد أن حكم اليمن حكماً قروسطياً طيلة 45 عاماً من الظلام والظلامية، والتخلف والأصولية الدينية المتشددة جداً، ثم ورث الحكم من بعده الإمام أحمد ثم الإمام البدر (آخر حكام المملكة المتوكلية اليمنية) الذي أطاحت به ثورة سبتمبر 1962، بعد حكم لم يدم غير ثمانية أيام، وحارب الثوار لمدة سبع سنوات لاستعادة عرش المتوكلية، وهو يذكرنا الآن بما يفعل القذافي في ليبيا مع ابنه سيف الإسلام؟ (وكان في اليمن من آل حميد الدين الذين ينسبون كذباً إلى آل البيت، الكثير من سيوف الإسلام الكاذبة، من أبنائهم، كما هو الحال في ليبيا الآن.)
نعم، يحق للشعب اليمني الثورة على حكم الرئيس علي عبد الله صالح بعد أن ارتكب عدة أخطاء مميتة مقلداً الكثير من الحكام العسكريين الدكتاتوريين في تونس وليبيا ومصر والعراق وسوريا، في الطمع بالحكم عقوداً بعد عقود، وبنية توريث الأبناء الحكم، وإن كان وضع المعارضة اليمنية في عهده أفضل، مما كانت عليه في المملكة المتوكلية. وعلينا أن لا ننسى هذه الحقيقة.

-2-
إن أكبر تحد واجه حاكماً عربياً هو التحدي الذي واجه علي عبد الله صالح.
فكان على علي عبد الله صالح أن يجترح المعجزة.
معجزة نقل اليمن القروسطي من القرون الوسطى إلى القرن العشرين والحادي والعشرين.
فلم يكن في العالم العربي بلد متخلف تخلفاً قروسطياً كاليمن. الدولة، والمجتمع، والمدينة، والقرية، والحاضرة، والأرياف، والجبال، والوديان، ومتعاطو القات وغير المتعاطين، الإمام في المملكة المتوكلية/ والرعية.. كل هؤلاء كانوا يعيشون في القرن العشرين في القرون الوسطى حياةً، ومأكلاً، ومشرباً، وفكراً، وديناً، وقاتاً.
وما زال في الشعب اليمني حتى الآن، ثمانين بالمائة من السلفيين المتشددين، ذوي الأوداج المنفوخة بالقات (تنفق اليمن على زراعة وشراء القات أكثر من 2 مليار دولار سنوياً). وما زالت الأميّة منتشرة في اليمن بنسبة أكثر 60% (ما عدا الجنوب الذي قضى على الأمية قبل الوحدة). والبطالة بنسبة 50%. وما زالت المرأة اليمنية في سجنها الاجتماعي، والثقافي، والسياسي.
وكان على عبد الله صالح أن ينقل هذا اليمن التعيس.. اليمن quot;السعيدquot; كذباً وبهتاناً، إلى اليمن في القرن العشرين في سنوات محدودة. وتلك كانت المهمة الصعبة، صعوبة لا حدود لها.
فكان على صالح أن يضع هذا اليمن في كبسولة فضائية، ويطلقه في فضاء التنمية والتغيير، خمسة أو ستة قرون زمنية في سنوات معدودات.
ورغم هذا فقد صحا الشعب اليمن ndash; في عهد صالح - على حقيقة أنه محكوم ظلماً وفساداً وتخلفاً لصالح، وأن عليه أن لا يمارس مضغ وquot;تخزينquot; القات كل مساء، وليصحو على حاله ووطنه، ويلحق بباقي شعوب الأرض المتقدمة.

-3-
في عام 2006 رجع علي عبد الله صالح إلى رشده لساعات، وتخلّص من عقدة الرئيس الأبدي، والرئيس المورِّث، والرئيس المقلِّد للدكتاتوريين الآخرين. وأعلن أنه لن يترشح لانتخابات الرئاسة في 2006. وكنت أنا ممن يراقب ذلك، فكتبتُ مقالاً أشيد به بصالح، وبعقلانيته، وبعودة الوعي والرشد السياسي إليه. ولكن بعد يوم واحد وفي 24/6/2006 تراجع صالح عن قراره، بعد أن وبخه ضميره السياسي quot;الميتquot;، وأعلن تراجعه عن قراره، بعدم ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة quot;بناءً على طلب الجماهير، ونزولاً عند رغبة الشعب كما قال، وبذا، صدقت رؤية المعارضة اليمنية، من أن ما قاله، وما أعلنه الرئيس اليمني، كان مسرحية سياسية، ومسرحية سياسية هزلية مقرفة، ضحك بها الرئيس اليمني على الجميع، وكنتُ أنا الأهبل، أول من صدّقه، وأول من ضحك عليه الرئيس صالح. وبذلك رضي الرئيس صالح لنفسه أن يكون تاكسي أجرة، يستأجره quot;حزب المؤتمر الشعبي العامquot;، الحاكم أو القوى السياسية، لإيصالها من المحطة إلى الفنادق على حد تعبيره. ورضي الرئيس صالح أن يكون مظلةً لفساد حزب سياسي، أو قوى سياسية، كما قال حرفياً في خطابه في ذلك الوقت.
فهل كنت في مقالي ذاك، كمن ينفخ في رماد، ويصرخ في واد؟
لقد نسيتُ للحظة واحدة قبل كتابة ذلك المقال، بأن العرب أمة الواحد الأحد في الأرض والسماء على السواء. وأن الربَّ واحدٌ، والزعيم واحدٌ، والقائد واحدٌ. وأن لا تعددية للعرب في السماء، وكذلك لا تعددية لهم على الأرض.

-4-
وهكذا، استجاب صالح هتك 2006 لعواطف الشارع اليمني، كما استجاب عبد الناصر لعواطف الشارع المصري بعد هزيمة 1967. وكأن مصر الخمسين مليوناً في ذلك الوقت، لم تلد غير عبد الناصر، الذي كان فشله أكثر من نجاحه، وكان خطؤه أكثر من صوابه، وكانت قراراته شعبوية عاطفية وشخصية وانتقامية، أكثر منها قرارات مؤسساتية عقلانية وواقعية ووطنية. وكان يسعى إلى إرضاء الجماهير الخفيرة المتشنجة، أكثر من إرضائه لعقل مصر. وكان يحقق للجماهير ما تريد وتطلب، لا ما تحتاج إليه. ومن هنا كثرت سقطاته، وتعثرت خطواته، وأحبه الناس بقلوبهم وعواطفهم، لا بعقولهم وحساباتهم.
وكنا نريد من صالح أن لا يكرر التراجيديا الناصرية.
كنا نريده أن يكون صلباً أمام عواطف الشارع اليمني، ويضرب مثالاً حياً للزعماء اليمنيين الذين سيحكمون بعده، وكذلك للزعماء العرب المتمسكين بكراسيهم وعروشهم لأسباب كثيرة منها ndash; كما يقول إعلامهم - لمنع انتشار الفوضى في بلدانهم، بعد أن يبتعدوا عن الحكم، ومنها أن الجماهير المخلصة تريدهم، ومنها أن الوطن يعدّهم من الآباء المؤسسين، ومنها أن الله خلقهم وكسر القالب بعدهم. فلا يوجد في البلاد التي تعدادها أكثر من سبعين مليوناً مثلاً غيرهم يستأهل الحكم ويقدر على مشقاته، حتى أن بعض الحكام في العالم العربي، الذي أمضوا في الحكم عشرات السنين، لم يكن لهم نواب يتولون الحكم من بعدهم، فيما لو زارهم ملك الموت عزرائيل يوماً، وقال لهم : شرِّفونا!

-5-
كنا لا نريد للرئيس صالح أن يسير على طريق الأصحاب والأحباب من الحكام العرب المعاصرين والمناضلين، الذين استولوا على الأوطان وما عليها من أنعام بـ (الأونطة) والحيلة والاستلاب، وحوّلوها إلى مزارع وعِزب لهم ولأبنائهم من بعدهم. لذا، فخطوة الرئيس اليمني لم تكن بالخطوة الحكيمة - في ذلك الوقت - في رأي كل الحكام العسكريين الانقلابيين العرب، لأنها تكسر القاعدة، وتحرم أصحاب المزارع والعِزب من استمرار امتلاكهم، هم وأولادهم للوطن وما عليه من أنعام. فقد ناشد القذافي ndash; وقتها - صالحاً quot;النزول عند رغبة الشعب اليمني، وإعادة ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية القادمةquot;.
ولم يتذكر صالح - وقتها - جورج واشنطن مؤسس الولايات المتحدة الأمريكية وبطل الاستقلال، الذي أصرَّ عليه مواطنوه أن يكون رئيساً مدى الحياة بعد ولايته الثانية أو يحكم على الأقل ولاية ثالثة وفاءً له، واعتزازاً بانجازاته التاريخية، باعتباره بطل الاستقلال والأب الروحي للشعب الأمريكي، ولكنه رفض ذلك رفضاً باتاً، وعارض عواطف شعبه، ورغبات والتماسات الكونجرس الأمريكي، لكي لا يكون سابقة سياسية سيئة، ومثالاً يُحتذى في المستقبل لمن سيأتي بعده من الرؤساء، ولم يرقَّ قلبه لكل هؤلاء، لأنه حرص على مستقبل أمريكا أكثر من حرصه على كرسي الحكم.
فهؤلاء هم العظماء في التاريخ البشري.
أما الحكام الدكتاتوريين الأبديين، فهم عظام التاريخ المنخورة.

-6-
إيجابيات صالح كثيرة رغم خداعه لي.
فهو جاء من المؤسسة العسكرية -كمعظم الحكام العرب الجمهوريين- بعد أن عاشت اليمن قبل عام 1978، حالة من الانفلات الأمني الكامل والفراغ السياسي، ووصلت الأوضاع الى حد، كان معه اليأس قد دب في نفوس اليمنيين الذين كانوا قد فقدوا الأمل، وكانوا يترقبون حرباً أهلية شاملة تأكل الأخضر واليابس.
وتميّز حُكمه بتحقيق انجازات وطنية مختلفة، وإن كانت له أخطاؤه الكبرى من حيث التسيب والفساد ونهب المال العام وانتفاع (المحاسيب) والأقارب من الفرص المالية التي أتاحتها لهم دولته.
والرئيس صالح هو بطل الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب التي حققها في 1990. وهو الذي سعى إلى تأسيس الأحزاب السياسية والحياة السياسية التعددية بعد تحقيق الوحدة اليمنية مباشرة. وكان بهذا يهيئ الساحة السياسية اليمنية لظهور زعامات جديدة تتداول السلطة. ولكن الشعب اليمني كسول ومتخاذل وسلبي واتكالي، كباقي الشعوب العربية، تجاه تحضير زعامات سياسية مستقبلية.
ولكن رغم ذلك فصالح قد خدعني عام 2006،وخدع المعارضة اليمنية أيضاً، وما زال كذلك.
السلام عليكم.