-1-
(السيقافة) كلمة منحوتة من (سياسي ndash; ثقافي)، وهي على شاكلة (جيو- سياسي). وهي ليست فذلكة من عندنا، بقدر ما هي محاولة لتقريب المعنى المقصود إلى ذهن قارئ الصحيفة اليومية السيّارة، وابن الشارع البسيط الذي عرفت الأصولية الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية كيف تكسبه، و(تأكل بعقله حلاوة) كما يقول المثل السائر الشعبي. فبعد أن كانت أدبيات الأصوليات الدينية وخطاباتها الدينية لغة الفقهاء المتخصصين فقط، ولغة الخاصة من أصحاب العمائم، وصفحات القساوسة المسيحيين المبشرين الغامضين، وزوايا الرباي اليهودية المظلمة.. الخ. أصبحت أدبيات الأصوليات الدينية في متناول كل واحد، ممن يجيدون القراءة أم من الأميين (لم يعد لمحو الأمية أية أهمية الآن، بعد تعدد وسائل المعرفة من سينما، وفضائيات، وفيديو تيوب، وخلاف ذلك.) وذلك بفضل ذكاء هذه الأصوليات وإدراكها لأهمية تغيير أسلوبها في مخاطبة الآخر، لكسب أكبر عدد من الناس إلى جانبها. وقد درجت الكتب السماوية على هذا الأسلوب البسيط، لكي تقترب من أكبر عدد من الناس، وتكسب أعرض جمهور ممكن، وهو ما نطلق عليه اليوم (الشارع). وكان هذا من الأسباب لانتشار الأديان هذا الانتشار الواسع. في حين بقيت الفلسفة، وبقي الفلاسفة في أبراجهم العاجية، رغم دعوة ابن رشد بتخصيص خطاب للعامة. ورغم تضحيات سقراط، التي أفقدته حياته من أجل أن يصل صوت الفلسفة إلى الشارع. فالسلطة لا تخشى الفلاسفة ولا الفلسفة، إلا إذا وصلت إلى الناس كافة، ومن هنا كان الفيلسوف المصري مراد وهبة، أخطر أستاذ جامعي في عهد السادات، وكان طرده من الجامعة، بغية أن ينقطع عن طلبته، وهم الشارع الصغير والضيق.
-2-
لقد سبق في مقالنا ( بين quot;فهلوةquot; الأصوليين وquot;خيبةquot; الليبراليين، 28/8/2010) أن نبهنا إلى ضرورة ذلك، ودعونا إلى إتباع نهج الأصولية في الدعوة الليبرالية الجديدة. وقلنا quot;بينما تخلّصت الأصولية الدينية من لغة القرون الوسطى، وما قبلها، واستنبطت لنفسها لغة عربية مفهومة، وبسيطة، وغير عسيرة، ومباشرة، ظلت لغة الليبراليين لغة صعبة، وملتوية، ومتعالية، تخاطب النخب السياسية والثقافية، ولا تنزل إلى مستوى العامة، وتريد منهم أن يرقوا إليها، لا أن تنزل إليهم.quot;
ففي حين لم يقتصر عمل الأصولية الدينية الإعلامي على النشرات، وأشرطة التسجيل، وأشرطة الفيديو، وإنما النفاذ إلى الفضائيات العربية، والمواقع الإلكترونية على الانترنت، ومخاطبة ملايين الناس من خلالها. كان الليبراليون يتقوقعون في الكتب غالباً، التي لا توزع إلا بضع مئات، كما يتقوقعون في المجلات الدورية المتخصصة، وفي المنتديات الخاصة، والمؤتمرات المغلقة، ويُسمعون بعضهم بعضاً حلو الكلام ومرّه. وهم بذلك معزولون عن الشارع، وعن العامة، وعن سواد الناس. ويطالبون بالتغيير والتطوير والثورة، وهم بعيدون عن القاعدة الشعبية، التي تعتبر حطب هذا التغيير، والتطوير، والثورة.
-3-
ما سبب هذه (الخيبة)؟
ربما كان السبب، أن الليبرالية تنظر إلى العامة نظرة دونية، وتقول أن العامة لا عقل لها، تجمعها طبلة، وتفرقها عصا!
وربما كان السبب أن الليبرالية لم تكن حزباً سياسياً موحداً في يوم ما، كما هو عليه الحال بالنسبة للإخوان المسلمين. كما أنها لا تطمع بالسلطة، كما تطمع بها quot;جماعة الإخوان المسلمينquot;، وكل الجماعات الإسلامية الأخرى، التي رأت أن أقرب طريق للقبض على السلطة، هي طريق الوصول إلى أتباع الدين الشعبي، والاقتراب من الطبقات الفقيرة والمسحوقة في المجتمعات، وهي نظرة ماركسية سابقة، وتكتيكاً شيوعياً معروفاً.
كما أنه من الصعب أن نطلب من نخب الليبرالية تغيير أسلوب الكتابة، والنزول إلى ملاقاة جموع الجماهير. فهذا ما لم تفعله نُخب التنوير الأوروبي في القرن الثامن والتاسع عشر. ولكن هذه النُخب لم تكن تملك وسائل الاتصال الإعلامي مع الجماهير غير وسيلة واحدة وهي الصحافة. في حين أن نخب الليبرالية العربية وغير العربية الآن تملك عدة وسائل إعلامية للاتصال بالجماهير كالراديو، والتليفزيون، وكذلك الانترنت.
-4-
في آخر حديث لأستاذنا مراد وهبة، قال عبارة مهمة وخطيرة نعارضه فيها، وهي أن الأزمة الحقيقية في العالم العربي ناتجة عن غياب quot;السلطة الثقافيةquot; أي أن تكون هذه السلطة إلى جانب السلطة القضائية، والتشريعية، والتنفيذية، والصحافية. وأنا أخالف ndash; بكل تواضع ndash; أستاذنا، وأطالب بالسياسي المثقف، والسياسي المؤمن إيماناً راسخاً بالحل الثقافي لمشاكل الوطن والمواطنين. أي أن يكون الأمير (الحاكم) مثقفاً قبل أن يكون سياسياً. فذلك هو الذي يدفع بالتنوير والتغيير إلى الأمام. وهو ما تشير له أمثلة كثيرة في التاريخ القديم والحديث في الشرق والغرب كمثال الخليفة المأمون، والإمبراطور البروسي فريدريك الثاني، ومحمد علي باشا، وكمال أتاتورك، والحبيب بورقيبة، وحكام آخرون معاصرون (لا يودون إعلان أسماءهم) يعيشون بيننا، وهم من دفعوا بترجمات تنويرية قيمة إلى المطبعة العربية منها ترجمة (نقد العقل الخالص) لكانط، وقاموا برعاية مثقفين تنويريين، ودفعوا ببلادهم إلى آفاق النور والمعرفة والتسامح والحوار الحضاري.. ومثل هؤلاء السلاطين كانوا مثقفين، وكانوا يرون أن الحل السياسي يكمن في الحل الثقافي. وأن (السيقافة) هي الحل العربي، وهو ما نطلب من أستاذنا مراد وهبة أن يتبناه. فالمثقفون لن ولم يفعلوا ما فعله السياسيون المثقفون. والأمثلة كثيرة. تأملوا دور فولتير وفردريك الثاني، ودور الجاحظ والمأمون، ودور الطاهر عاشور والحبيب بورقيبة، ودور رفاعة الطهطاوي ومحمد علي باشا، ودور مدحت باشا (أبو الدستور، وأبو الأحرار) وكمال أتاتورك.. الخ.
فالمفكرون والكتاب قالوا كلمتهم. ولكن السياسيين هم من تبنّوها، ونشروها، وطبّقوها على أرض الواقع، وتحملوا مسؤولية نشرها وتطبيقها. وقد صدق الخليفة عثمان بن عفان عندما قال quot;إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.quot;
وهذا ما يؤيد دور السلطان المثقف وأهميته، في نشر ورعاية العرفان والبرهان. وحاجتنا الضرورية إلى (سيقافة)؛ أي إلى السياسي ndash; الثقافي؛ أي إلى السياسي المثقف، وليس الى السياسي العسكري، أو السياسي الأمني، أو السياسي الدرويش، أو السياسي القبلي.
السلام عليكم.
التعليقات