تنفَّست الأصولية الدينية الصُعداء، برحيل نصر حامد أبو زيد بجسده الضخم إلى تحت الأرض، لتتنفس عظامه مع عظام أبي العلاء المعري، وأبي بكر الرازي، والحلاج، وابن عربي، وغيلان الدمشقي، والسهروردي، وغيرهم من كاشفي الأسرار، وفاضحي المسكوت عنه. بينما بقيت آراؤه، وكتبه، وفكره فوق الأرض، تدور في المكتبات، وقاعات الدرس، ورؤوس المتلقين في الشرق، وفي الغرب.
معركة الأصولية الدينية
لم يُجدِ الأصولية الدينية نفعاً، طردُ أبي زيد من جامعة القاهرة، وحرمانه من الدرجة العلمية.
ولم يُجدِ الأصولية الدينية نفعاً، حُكم التفريق بينه وبين زوجته، وهو أشهر وأبشع حُكم يصدر في العالم، في العصر الحديث، بين زوج وزوجته، نتيجة لأفكار وآراء الزوج.. ولكن هذا حال مصر هذه الأيام.. أم العجائب والغرائب!
كما لم يُجدِ الأصولية الدينية نفعاً، هروب أبي زيد من مصر، ونفيه من quot;دار السلامquot; إلى quot;دار الحربquot; في هولندا. ففي quot;دار الحربquot; علا صوته، واشتد عوده، ووجد فضاءً أكبر، وأفقاً أوسع، للسباحة، والتحليق بالفكر الحداثي.
كما لم يُجدِ الأصولية الدينية نفعاً، وأد أبي زيد في quot;الحياة الجاهليةquot; الدينية التي تعيشها مصر الآن، ويعيشها العالم العربي معها. ولولا هذه quot;الجاهليةquot;، لما تمَّ صدور حكم التفريق بينه وبين زوجته، وإرغامه على الخروج من quot;دار السلامquot; إلى quot;دار الحربquot;، على عكس ما تقوله وتنادي به، الأصولية الدينية، في أدبياتها.
طائر الفينيق المتجدد
ورحل طائر الفينيق المتجدد، من مصر (دار السلام) إلى هولندا (دار الحرب) أستاذاً جامعياً، ومفكراً حراً.. يقول ما يشاء، ويختار ما يشاء، كأي quot;هرطيقquot; آخر (أي صاحب quot;اختيارquot; حسب القاموس اليوناني) في دنيا الغرب، والشرق.
وظل أبو زيد يُحلِّق في فضاءات غير محدودة، وسماء غير مسدودة. ولم يجدِ الأصولية الدينية نفعاً، شدّ أذنيه، وقصّ جناحيه، وقطع لسانه.
ولم يكفّّ أبو زيد عن التفكير والعطاء، في كل مجال ممنوح، في الغرب والشرق، وفي مصر نفسها.
وبقينا - نحن طلابه ndash; نتتبعه، تتبع الأعراب للماء، في الصحراء الحارقة.
وظل أبو زيد يُنير الطريق إلى الطريق، ويُهدي الحق إلى الحقيقة.
لم يكن أبو زيد وحده
لم يكن أبو زيد وحده، هو الذي أرادت الأصولية الدينية في عصر quot;الردة الجديدةquot; ndash; وحيث لا أبو بكر جديداً يقاومها - أن تُؤده حياً، بقتله، أو بالتفريق بينه وبين زوجه، أو بسجنه، أو بسحب كتابه من المطبعة لكي لا يُنشر ويُدثر، أو بطرده من عمله، أو بتعليقه على حبل المشنقة (كما جرى للمفكر السوداني محمود محمد طه، 1985)، ولكن هناك صفاً طويلاً، وعدداً كبيراً من المفكرين الليبراليين الحداثيين، الذين هربوا بفكرهم وكتبهم، من quot;ديار السلامquot;، التي أصبحت quot;ديار سخامquot; من كثرة السواد والظلام، بفعل العصر الجاهلي الجديد الثالث (الجاهلية الأولى قبل الإسلام، والثانية ما أعلنها ndash; بهتاناً وتعصباً - القطبان سيّد ومحمد، والثالثة هي ما نعيشه الآن). فـ quot;ديار الحربquot; في أوروبا وأمريكا، تَعجُّ بمئات المفكرين الليبراليين الحداثيين العرب في جامعاتها، ومنتدياتها، ومنابرها.
فيروس الأصولية المتشددة
عجبتُ من قول الفريق الطبي، من أن أبا زيد قد رحل بفعل فيروس غريب وخفي، لم يُعرف لهم بعد. ولكن فيما الحيرة، والفيروس الذي رحل بفعله أبو زيد هو quot;فيروس الأصولية الدينية المتشددةquot;، التي سبق لها، وأهدرت دماء كثير من المفكرين الليبراليين الحداثيين، وقتلت عدداً منهم (فرج فوده، حسين مروة، مهدي عامل، محمود محمد طه وغيرهم).. وهو الفيروس نفسه، الذي قتل أبا زيد في عزِّ شبابه الفكري، وفي ربيع عطائه الإنساني المتدفق.
السلام عليكم.
التعليقات