نكرر للمرة الألف، من أن الليبرالية السعودية وفرسانها الذين نتحدث عنهم ضمن سلسلة مقالاتنا بهذا الخصوص، ليست هي الليبرالية الغربية. وليست هي الليبرالية كما يفهمها الغرب، وكما صاغها لنفسه من خلال معتقده الديني، ومن خلال قيمه الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والسياسية.

هنا وهناك
فهناك المسيحية، وهنا الإسلام.
وهناك الثورة الصناعية، وهنا المجتمع الاستهلاكي المحموم.
وهناك ضبط المواليد وعدد السكان، وهنا القنابل السكانية المتفجرة، وسكان بلا حدود.
وهناك عصر الأنوار والثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، وهنا الاستعمار العثماني الظلامي لمدة أربعة قرون (1517-1918).
وهناك الديمقراطية، وهنا حكم السلاطين والمتسلطين.
وهناك جحافل من المفكرين، والباحثين، والفلاسفة، والمخترعين، والمبدعين، وهنا جحافل من حفظة وملقني النصوص القديمة، ومشايخ الطرق الصوفية، والدراويش، وتجار الدين، والسحرة، والمشعوذين الدينيين.
وهناك المرأة المتحررة والحرة عقلياً ودينياً وجسدياً، وهنا المرأة المرتهنة للعَلَف والخَلَف فقط.
وهناك الحداثة بحلوها، ومُرِّها، وانفتاحها، وهنا القدامة بتعصبها، وضيقها، وعنصريتها.
وهناك رُقي وتفهُّم حضاري في التعامل مع الخطأ والمخطئين، وهنا تخلُّف وحماقة وتشنج، وغرائز وحشية.

ليبراليتهم وليبراليتنا
فليبراليتهم ليبرالية ما، وليبراليتنا شيء آخر، كنا قد شرحنا مظاهرها، وحدودها، وخطابها، في عدة مقالات سابقة، وانتهينا إلى أن ما يجمع بين الليبرالية العربية والسعودية - بوجه خاص - وبين الليبرالية الغربية، ثلاث قواسم مشتركة:
1- الإيمان بحق المواطنة الكامل لكل المواطنين، بغض النظر عن لونهم، وجنسهم، وطائفتهم، ومعتقداتهم.
2- كفل حرية الرأي الآخر كفالة تامة، وإتاحة المجال والحرية لكل ذي رأي مخالف، دون عقاب، أو مصادرة، أو إقصاء.
3- التدرج في خطوات الإصلاح العام، وعدم حرق المراحل، لكي لا تذوب جبال الجليد المتراكمة منذ قرون بسرعة، وتسبب فيضانات مدمرة. (تُستثنى الثورة الفرنسية).

عودة إلى خطاب أبا الخيل الليبرالي
كان فولتير - كما يقول مؤرخه أندريه كريسون ndash; لا يكتفي بمهاجمة ما يراه أفكاراً خاطئة، بل يسعى إلى أن يبني من جديد ما هَدم. وهذا هو الجزء الايجابي من آثاره.
وفي جملة المقالات المهمة، التي نشرها يوسف أبا الخيل، في جريدة quot;الرياضquot;، منذ أعوام خلت، درجَ على أن يهاجم ما يراه من أفكار خاطئة، ويسعى في الوقت نفسه إلى بناء ما هدم من جديد، وعلى ضوء معطيات العصر الحديثة، واحتياجات البشر الجُدد في الحياة المتبدلة والمتغيّرة على الدوام، تغيُّر مياه النهر الجاري بتدفق، لا ينقطع.
ففي مناقشته لآراء جمال البنا الفقهية، بخصوص الحجاب والمرأة، والتي أثارت زوابع كثيرة في العالمين العربي والإسلامي، أخذ أبا الخيل بتاريخية النصوص الفقهية، ومحدودية واقعها التاريخي، وقال بشجاعة الفقهاء العقلانيين، الذين لا يفسرون النصوص المقدسة من فوق التاريخ، ولكن من خلاله، ومن داخله، وعلّق على هذه الآراء بقوله:
quot; إن هذه النصوص - كما هو مقطوع به لدى كافة طوائف المسلمين - محدودة ومحصورة بواقع تاريخي محدد بنوازله ووقائعه. وهي حقيقة مُعبَّرٌ عنها لدى كافة تلك الطوائف بشعار: quot;ندرة النصوص، ولانهائية الحاجات والوقائع الجديدةquot;. ولم تكن ثمة وسيلة للتعامل مع الوقائع، التي استجدت بعد انقطاع الوحي غير تفعيل المَلَكة العقلية، حيال استنباط ما يمكن أن تُكيّف به تلك الوقائع المستجدة. وهذه المَلَكة العقلية قُيِّدت على مرِّ تاريخ التشريع الإسلامي، بتحديد مجالات عمل العقل الإسلامي، وعلى رأسها تدشين quot;آلية القياس على أصل سابقquot;، من قبل الإمام محمد بن إدريس الشافعي (150 ndash; 204هـ). وهي الآليّة التي يتطلب تفعيلها البحث في أصل من أصول التشريع، لاستنتاج علَّة الحكم فيه، ليتمكن الفقيه المجتهد على ضوء ذلك، من إلحاق حكم الفرع بحكم ذلك الأصل بجامع العلِّة بينهما. وقد عرَّف المتكلمون من المسلمين (أصحاب مذاهب علم الكلام) القياس بأنه quot; قياس الغائب على الشاهدquot;.
ويضيف أبا الخيل مفسراً، وشارحاً:
quot;فالشاهد هنا، هو الوقائع الجديدة. أما الغائب فهي الأصول، التي حملت أحكام التشريع لوقائع معينة، مرتبطة تاريخياً بزمنها. والأحكام المُنتَجة بواسطة القياس ليست شيئاً غير الفقه. وبالتالي، فهذا الفقه، بصفته استنباطاً من الأدلة بقياس الفروع على الأصول، ليس هو الشريعة نفسها، بل هو اجتهاد بشري، داخل حدود الشريعة. والأحكام المستنبطة بواسطة الاجتهاد، اعتماداً على آلية القياس، لا تعتبر أحكاماً قطعية، بل هي أحكام ظنيّة فقط. إذ أن الحكم القطعي الذي لا يسوَّغ الخلاف فيه، هو الحكم الذي جاء به الأصل (المقيس عليه)، خاصة إذا كان قطعي الدلالة والثبوت. أما المقيس، وهو الفرع، فلا يعدو حكمه أن يكون ظنيّاً، لأن الفقيه عندما يستخدم القياس، لا يستطيع الجزم بعلة الحكم في الأصل المقيس عليه.quot; (quot;الإحيائية الفقهية الجديدةquot;، جريدة quot;الرياضquot;، 8/4/2006).


فماذا نستخلص من هذا كله؟
1- أن هذه الآراء في الأحكام الشرعية، هي لبُّ الليبرالية التي تتأسس الآن في السعودية بقواعد مكينة، ترتكز على العلم، والمعرفة، واستعمال العقل في طرح المسائل. وهي كما وصفها -حقاً - أبا الخيل، هي quot;الإحيائية الفقهية الجديدةquot;.
2- أن النصوص المقدسة، يجب أن تُفسَّر ضمن سياقاتها التاريخية، وليس خارج هذه السياقات. وتفسير النصوص المقدسة ضمن سياقاتها التاريخية، يُظهر منها quot;المقاصديةquot;، التي نستطيع توظيفها في مختلف مظاهر وسلوكيات الحياة المعاصرة. وتلك ركن أساسي من أركان التأويل الليبرالي للنصوص المقدسة.
3- تمَّ تقييد المَلَكة العقلية على مرِّ تاريخ التشريع الإسلامي، بتحديد مجالات عمل العقل الإسلامي. ويتطلب تفعيل هذه المَلَكة، البحث في أصل من أصول التشريع، لاستنتاج علَّة الحكم فيه، ليتمكن الفقيه المجتهد على ضوء ذلك، من إلحاق حكم الفرع بحكم ذلك الأصل، بجامع العلِّة بينهما.
4- إن الفقه ليس هو الشريعة، ولكنه اجتهاد بشري. إنه استنباط من الشريعة. والأحكام الفقهية ليست قطعية، ولكنها ظنيّة فقط.
وهذه الإحيائيات الفقهية السعودية الجديدة، تأسيس على تأسيس للإحيائيات الفقهية التي قال بها محمد عبده، وعلي ومصطفى عبد الرازق، وأمين الخولي، وخالد محمد خالد، وغيرهم من المصلحين الليبراليين في مصر. كما قال بها الطاهر حداد، والطاهر بن عاشور، وابنه محمد الفاضل بن عاشور، وشدد عليها فيما بعد العفيف الأخضر، ومحمد وعبد المجيد الشرفي، ومحمد حداد، وهشام جعيط، في تونس. وهي كلها تصب في نهر الليبرالية الفكرية المتدفق، تحت صخور السلفية والأصولية.
السلام عليكم.