-1-
لم يعتد العالم العربي بعد الاستقلال، ومنذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، أن يراجع أفكاره في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة. وكانت صفة الديمومة والخشبية هي الغالبة. وكانت الأمثال العربية المتمسَّكُ بها دائماً:
quot;قديمك نديمكquot;، و quot; من فات قديمه تاهquot;، وquot;الخير في العتاقيquot;.. الخ.
وكانت ndash; وما زالت ndash; السلوكيات العربية تخشى وتتردد في الأخذ بالجديد الذي كثيراً ما يُرمى بأنه مستحدث وبدعة وكل بدعة في النار. وهو مضمون حديث نبوي مُختلق في العصر الأموي رداً على دعاوى quot;الخوارجquot;، ومن نازع الأمويين في مُلكهم. ومضمون هذا الحديث النبوي تردده كثير من السلطات العربية، وأبواق دعاياتها الأرضية والفضائية والورقية والإليكترونية اليوم، لصد الأفكار الجديدة، التي جاءت مع الثورة المعلوماتية والاتصالية، وتقريب أقاصي الأرض إلى أقاصي الأرض، وإلغاء المسافات بين أطراف الكرة الأرضية، وجعل هذه الكرة بحجم كرة القدم، أو كرة المضرب!
فهل تخضع quot;الليبرالية الجديدةquot; لمنطق، وسطوة، وسيف، وعصا، وقضيب: quot;قديمك نديمكquot;، و من فات قديمه تاهquot;، و quot;الخير في العتاقيquot;.. الخ؟!
-2-
وسوف تبدو quot;الليبرالية الجديدةquot; غريبة ومستهجَنة، في تنجيدها لنفسها، وفراشها، ومراتبها، ومخداتها، ونشر هذا كله للتهوية، في شمس صيف العرب الحار والرطب، قبل حلول قسوة وجوع الشتاء على أكثر من 95% من العرب، نتيجة الفقر، وغلاء الأسعار، وانتشار البطالة، والتحريم الديني لتحديد النسل، وسيطرة أفكار السلف على حياة الخلف، وسوء المناهج الدراسية، وتغلغل الطائفية الدينية والعرقية، ومعاداة الأفكار التقدمية، وخضوع معظم البلدان العربية إلى الحكم العسكري الديكتاتوري، الذي يلبس البزّات العسكرية أحياناً، والبذلات المدنية والياقات المنشاة أحياناً أخرى للتخفّي، والتزوير.
-3-
ما هي الأسباب التي تدفع quot;الليبرالية الجديدةquot; إلى تنجيد أفكارها، وتجديد نفسها، على النحو الذي بسطناه قبل قليل؟
هنالك عدة أسباب ودوافع سياسية، واجتماعية، وثقافية، واقتصادية، منها:
1- زيادة عدد الأغنياء والفقراء دولاً وشعوباً في العالم العربي، نتيجة للطفرة البترولية الجديدة التي حدثت في 2005 وما بعد ذلك، وارتفاع أسعار البترول إلى مستويات عير مسبوقة. وما نتج عن ذلك من تحولات في السياسة، والاجتماع، والثقافة. تمثلت في قدرة بعض دول النفط على تمويل الإعلام المرئي والمكتوب بأموال طائلة لإطلاق فضائيات، وإصدار صحف ورقية واليكترونية ومواقع إليكترونية على الانترنت، تتصدى لأفكار quot;الليبرالية الجديدةquot; وتتفهها وتسخفها، وترميها بالتحالف مع quot;المحافظين الجُددquot; في أمريكا، وبعمالتها للإدارة الأمريكية البوشية، التي حررت العراق، وأشعلت فيه نار الثورة المطفأة الآن.
2- اعتادت خطابات Discourses الأحزاب السياسية وخطابات المفكرين العرب بعدم التنجيد أو التجديد خوفاً من اتهامها بالتراجع. وعندما عاتبتُ المرحوم خالد محمد خالد عن تراجعه عام 1988 عن أفكاره التي أعلنها في كتبه في الخمسينات من القرن الماضي، قال لي، بأن هذا ليس تراجعاً وإنما مراجعة. وعندما تلاوم بعض اليساريين الطفوليين على المفكر التونسي العفيف الأخضر للتخلّي عن بعض أفكاره، التي كان ينادي بها في الستينات من القرن الماضي، ردَّ عليهم بقوله: quot;كل شيء يتغير في هذا العالم من البشر إلى الشجر. وحتى الحجر يتغير.quot; وquot;الليبرالية الجديدةquot;، لكي تبقى على جدتها وحيويتها، عليها أن تراجع نفسها ومبادئها من وقت لآخر، بالتساوق مع تغيرات، ومراجعات الحياة المعاصرة السريعة والخاطفة. ودون ذلك ستكون quot;الليبرالية الجديدةquot; كغصن الشجرة اليابسة، فلا هي أورقت، ولا هي قُطعت. وسوف تتآكل من (السوس) مع الزمن، وتصبح كالعرجون القديم.
3- ظهرت قوى ليبرالية جديدة في المنطقة، وخاصة في الخليج العربي. وتراجعت قوى ليبرالية كان من المؤمل أن تتقدم بسرعة، ولكنها لم تفعل. وكان على quot;الليبرالية الجديدةquot; أن ترصد هذه التغيرات المهمة. فتقدم الليبرالية السعودية خلال السنوات الخمس الأخيرة كان ثابتاً وسريعاً وبارزاً. وهو بمثابة تحول كبير ليس شبيهاً بالثورة، ولكنه أشبه بالبركان الفكري الذي جاء بما في باطن الأرض وقلبه إلى سطح الأرض. ومن يقرأ كتابنا عن quot;الليبرالية السعوديةquot; بأجزائه الثلاثة: (العرب بين الليبرالية والأصولية الدينية)، و(الليبرالية السعودية بين الوهم والحقيقة)، و(الحداثة والليبرالية.. معاً على الطريق) سوف يوقن إيقاناً تاماً بحدوث هذا البركان الفكري الذي نتحدث عنه. وسيدرك تمام الإدراك بأن العرب يتغيرون. ولكن هذا التغيير لن يتاح في باقي البلدان العربية بدون قيادات سياسية. وأن الليبرالية العربية، هي كجذر البطاطا موجود في الأرض العربية، ولكنه يحتاج إلى من يتيح له الامتداد والعطاء. والقيادة السياسية القادرة والواعية، هي الوحيدة التي تتيح لهذا الجذر بالامتداد والعطاء. وقد كان الأمر كذلك في السعودية، كما سبق وكان في تونس بعد الاستقلال في النصف الثاني من القرن الماضي، في حين لم يكن الأمر كذلك في العراق. وهما أهم بلدين الآن في المشرق الآسيوي العربي. وكان على الليبرالية أن ترصد هذا، وتتحدث عنه. وقد كان. وقد اكتشفنا خلال السنوات الخمس الماضية، أن السعودية كانت أكثر سرعة من العراق في الأخذ بالتحديث. ومن يقرأ كتاب رشيد الخيّون (لاهوت السياسة: الأحزاب الدينية المعاصرة في العراق) سوف يكتشف كم أن العراق بعيدٌ عن الحداثة والليبرالية، من جراء هذا الكم الكبير من الأحزاب الدينية المتشددة والمتعصبة، وملايين الأتباع لهذه الأحزاب. ومن الملاحظ، أن المؤرخ والباحث الخيّون يختتم كل فصل من فصول كتابه عن الأحزاب الدينية المعاصرة في العراق بقوله: quot;الآن هو حزب طائفة، وحزب تعاليم دينيةquot;.
فكيف يمكن لليبرالية والحداثة أن تخترقا هذه الأكوام الضخمة من الأحزاب والمليشيات الدينية المتشددة وطقوسها التي تصل حد العبادة المتشددة، خاصة ما يتعلق بالإمام الحاكم المعصوم من الخطأ ndash; حسب المذاهب الشيعية - فلا يُحاسب ولا يُعاقب، وحاله كحال النبي عليه السلام. وعندما ركَّزنا على بحث الليبرالية السعودية وطلائعها المثقفة، انتفضت مجموعة من القراء العراقيين المتعصبين، ورمونا بشتى تهم العمالة والارتهان كالمعتاد. بسبب أن خطابنا فيما يتعلق بالعراق اختلف عما كان عليه بعد 2003. وأنا أعترف باختلاف هذا الخطاب، بعدما رأيت من مهازل الحكم العراقي الجديد، وسيطرة الأحزاب الدينية الشيعية والسنية على السياسة العراقية بشكل مرعب، ودعم إيران لهذه الأحزاب. وغرق العراق في سخافات وقشور دينية مضحكة، كالاختلاف إلى حد الصراع الدموي على قضية الأذان، بحيث يكون الفجر والظهر والمغرب بصيغة شيعية (مع ذكر الشهادة الثالثة: quot;أشهد أن علياً ولي اللهquot;) والعصر العشاء بصيغة سُنيَّة (بدون ذكر الشهادة الثالثة)، فيما لو علمنا أن ترك الأذان quot;وهو ليس من أساسيات الصلاة أقل فساداً من رفعه، وهو يعمّق الفِرقة ويوقظ الفتنةquot; (quot;لاهوت السياسةquot;، ص305) مما يعيد العراق من جديد إلى العهد العثماني الغابر، الذي انهار عام 1917.
فهل هذا هو العراق الجديد المُؤمَّل، بعد كل هذه التضحيات خلال سبع سنوات مضت؟!
(وسنواصل).
السلام عليكم
التعليقات