-1-
منذ أسس حسن البنا quot;جماعة الإخوان المسلمينquot; في الإسماعيلية عام 1928، وهذه الجماعة تعمل ما وسعها العمل وتجتهد ما استطاعت الاجتهاد، لكي تُعيد quot;الخلافة الإسلاميةquot; التي أسقطها كمال أتاتورك عام 1924 . وكانت هي ساقطة من ذاتها، كالثمرة الناضجة، التي لا تحتاج إلا إلى هبّة هواء خفيفة، ثم تتدحرج على الأرض. فحاولت هذه quot;الجماعةquot; - بمشاركة الأزهر - أن تُوهم الملك فؤاد، بأنه من سلالة آل البيت. وأنه أحق الحكام بالخلافة لوجود حديث لفَّقه الأمويون يقول:
quot; الأئمة منَّا آل البيتquot;.
وحديث آخر يقول:
quot;الأئمة من قريشquot;.
ولكن الليبراليين في العشرينات من القرن الماضي، كانوا لهذه quot;الجماعةquot;، وللملك فؤاد بالمرصاد، وعلى رأسهم لطفي السيد، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، وحسين هيكل، وغيرهم من رواد الليبرالية التنويرية الأولى. فنفى علي عبد الرازق في كتابه (quot;الإسلام وأصول الحكمquot;، 1925) أن يكون الإسلام قد دعا إلى الخلافة. كما نفى أن الإسلام دين ودولة. وأتبعه طه حسين بكتابه quot;في الشعر الجاهليquot; الذي شكك فيه، بكل ما احتواه الكتاب المقدس، من أساطير الأولين. وهكذا تم دفن الخلافة في مصر، بعد أن قطع أتاتورك رأسها في اسطنبول.

-2-
في الحقيقة، أستغرب، ويستغرب غيري كذلك ndash; لأول وهلة - سعي quot;جماعة الإخوان المسلمينquot; لإقامة الخلافة الإسلامية، علماً بأن أكثر من 90% من الخلفاء في العصرين الأموي والعباسي، وكذلك السلاطين في العهد العثماني، وما بينهم من المماليك، والسلاجقة، وغيرهم، كانوا حكاماً (طراطير) وفاسدين، وظالمين، وطغاة.
ولم يقم العدل والحق في الخلافة الإسلامية، طوال أكثر من عشرة قرون، إلا في سنوات معدودات.
فما سبب إصرار هذه quot;الجماعةquot;، وسعيها لإقامة دولة دينية متمثلةً بالخلافة الإسلامية، إلا لأنها ترى بأن مرشدها العام، هو المؤهل الوحيد، ليكون الخليفة، في ظل عدم وجود حكام عرب، يصلحون الآن لهذا المنصب.
إذن، إصرار هذه الجماعة وسعيها الدءوب لإقامة الخلافة الإسلامية، ليس خدمة للإسلام ndash; كما تدّعي - بقدر ما هو خدمة لمصالحها هي.

-3-
في عام 1966 اشتد الشبق السياسي في رئيس وزراء السودان آنذاك (الصادق المهدي) وسعى إلى الخلافة الإسلامية من جديد، باعتبار أن المهدي وquot;المهديةquot;، كانوا يعتبرون أنفسهم من آل البيت، ويستحقون الخلافة !
وما أكثر من يدعي أنه من آل البيت!
فكلٌ يدّعي وصلاً بليلى
وليلى لا تُقرُّ لهم بذاك
فكلّف الصادق المهدي حسن الترابي ndash; باعتباره زعيم quot;جماعة الإخوان المسلمينquot; في السودان، وهم أدرى الناس بشؤون الخلافة وشجونها- بكتابة دراسة عن احتمال قيام دولة إسلامية في السودان. وبما أن حسن الترابي لم يكن يأمل بأن يكون خليفة المسلمين في السودان، مع وجود الصادق المهدي، الزعيم الديني والسياسي اللامع، لذا فقد انصبت دراسة الترابي، على استبعاد هذا الأمر، وكان مسوغاته تقول:
1- إن الجنوب السوداني عقبة كأداء في وجه دولة الخلافة الإسلامية. فالخصومة السياسية بين الشماليين والجنوبيين على أشدها، فما بالك لو أصبحت الخصومة بين المسلمين والمسيحيين، نتيجة للدولة الدينية الإسلامية.
2- هناك مخاطر من إقامة مثل هذه الخلافة متأتية من جيران السودان المسيحيين في إفريقيا، وخاصة أقباط الحبشة، والاشتراكيين في مصر .
3- كافة الدول الصديقة في الغرب لن تقبل، ولن تعترف بدولة الخلافة. (والدليل ما حصل فيما بعد لـ quot;حماسquot; في غزة، وممانعة الاتحاد الأوروبي ضمَّ تركيا إليه.)
4- العالم الآن في شرقه وغربه وشماله وجنوبه أصبح عالماً مدنياً يقوم على شرائع مدنية موضوعة قابلة للتغيير والتبديل حسب الظروف والمستجدات في كل آن. وقيام خلافة إسلامية، أو مسيحية، أو يهودية، أو بوذية، أو أية خلافة دينية يعتبر ضد تيار العصر، ومجرياته.

-4-
وهذه المسوغات، تنطبق انطباقاً يكاد يكون تاماً على كل بلد عربي، يفكر بإقامة الخلافة الإسلامية، أو دولة دينية، يحكمها خليفة أو سلطان أو أمير أو والٍ.
فكل بلد عربي محاط بجيران رافضين للخلافة الإسلامية.
وكل بلد عربي فيه من الانشقاقات المذهبية والطائفية والعرقية ما يكفيه.
وكل بلد عربي يخشى من صدامه مع الغرب الليبرالي ذي الدول المدنية، التي ودَّعت الدولة الدينية منذ قرون.

-5-
ولكن الشبق السياسي، والسعي إلى دولة الخلافة الإسلامية عاد من جديد!
ففي العام 1979 بدأت إدارة الخميني في طهران، تقيم علاقات دينية متينة مع رموز دينية، ومنها حسن الترابي. وكانت هذه العلاقات والرسائل المتبادلة بين الطرفين، تدور حول إمكانية إقامة دولة دينية في السودان، على غرار دولة الخميني في طهران. وكان جعفر نميري يحكم السودان أثناء ذلك، وقد شرع في إعداد كتاب عام 1980 بعنوان quot;النهج الإسلامي.. لماذا؟quot; فوجد الترابي ضالته السياسية في النميري الذي أطلق عليه فيما بعد لقب quot;أمير المؤمنينquot;، ودفعه إلى شنق محمود طه زعيم الجمهوريين السودانيين، للاختلاف الحاد بينهما.
فالترابي يريد تسييس الإسلام، بينما محمود طه يريد أسلمة السياسة، كما قال الكاتب السوداني بابكر حسن مكي، في سلسلة مقالاته في جريدة quot;السياسةquot; الكويتية في الثمانينات من القرن الماضي.
وهكذا نرى، أن quot;جماعة الإخوان المسلمينquot; في كل بلد عربي، تحاول امتطاء ظهر الحاكم، لكي تتمكن هي من الحكم. ويكون الحاكم هو الدابة، التي يركبها الخليفة (المرشد العام، أو المراقب العام) في موكبه إلى المسجد، لأداء صلاة الجمعة.