-1-
ما أن فتحنا باب مصر في مقالينا السابقين، حتى تدفقت الردود والتعليقات من العامة والخاصة. ولكن ما لفت نظري في هذه الردود نقطتان.
الأولى، أن كثيراً من ردود أفراد المعارضة المصرية لحكم مبارك، وردود عناصر الإخوان المسلمين، وردود عناصر من الأقباط، وكل من يحمل ضغينة أو كرهاً للنظام السياسي القائم اعتبر ndash; خطأً ndash; أن مصر هي حكم مبارك، وأن حكم مبارك هو مصر. ورغم نواقص حكم مبارك منذ ثلاثين سنة حتى الآن، إلا أن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن أكبر هامش من الحرية (وخاصة حرية الرأي) وأكبر هامش من الديمقراطية (وتذكروا أن مصر عربية، وتعيش في قلب العالم العربي، ولها من أمراضه وعلاّته الشيء الكثير) تمّ في عهد مبارك. علماً أن مبارك نفسه، وحزبه الوطني، والمعارضة، وأنتم، وأنا، نعتبر هذه الحرية ناقصة، وتلك الديمقراطية مقضومة. ولكن قياساً مع ما في العالم العربي التي تعتبر مصر جزءاً لا يتجزأ من قيمه السياسية والاجتماعية والثقافية ndash; رضينا أم أبينا، وافقنا طه حسين ولويس عوض وتوفيق الحكيم وحسين فوزي، ومجموعة الانعزاليين كما وصفهم رجاء النقاش في كتابه quot;الانعزاليون في مصر quot; أم عارضناهم - فإن مصر تعيش في حرية نسبية، وديمقراطية نسبية.
وسؤال واحد يمكن أن يدهش الجميع:
- هل توجد صحافة ومعارضة في أي بلد عربي - بما فيه لبنان ndash; تنتقدان الحكم ورأس الحكم، ليلاً نهاراً وصبحاً ومساءً بنفس الحدة والشدة، كما يتم الآن في مصر؟
وسؤال آخر أكثر دهشة وفجائية:
- هل قرأنا في تاريخ مصر منذ ثلاثة آلاف سنة وأكثر وحتى الآن، عهداً سياسياً تعرض للنقد والمكاشفة والمصارحة والتجريح المرير، كما تمَّ ويتمُّ الآن في عهد مبارك؟
أسأل وأقول قولي هذا، وأنا لست مصرياً، وليست لي أية طموحات في مصر، وبعيد عنها آلاف الكيلومترات، ولا أمل لي حتى في زيارتها مستقبلاً. ومصر ليست دولة خليجية أو نفطية لكي تشتري صوتاً أجش. وشهاداتي في مصر الآن ليست مجانية، ولكنها لولائي للحقيقة الشجاعة.

-2-
والثانية، أنني أقرأ كثيراً للباحث الجاد مسعود ضاهر المؤرخ والأكاديمي اللبناني العريق والمتخصص في الشؤون اليابانية، من خلال ثلاثة كتب له عن التجربة اليابانية، ومئات المقالات، وعشرات الندوات والمحاضرات، عن المقارنة بين مصر واليابان. وينتهي السؤال التقليدي بالقول:
- لماذا نجحت اليابان وخابت مصر؟
وهو السؤال الذي يردده كثيرون، قبل وبعد مسعود ضاهر، من العامة والخاصة، ومن الرعاع، والنخبة.

-3-

والسؤال في ndash; رأيي ndash; خاطئ ولا يجب أن يُسأل هكذا، لأن لا مقارنة ممكنة بين مصر واليابان، للأسباب التالية:
1- مصر دولة إسلامية يتلبسها الإسلام الشعبي الممتزج بالأساطير، والخرافات، والتقاليد، والعادات الفرعونية والفاطمية والطولونية والأيوبية والمملوكية والعثمانية.. الخ. من رأسها إلى أخمص قدميها. ويرى مسيو فورييه (أحد كتاب سفر quot;وصف مصرquot;) أن مصر محاطة بالخرافة، ومردها إلى حكم المماليك منذ القرن العاشر الميلادي، وسيطرة العثمانيين منذ القرن السادس عشر. وتظهر بثور هذا كله على الجسم والوجه المصري بين حين وآخر، وخاصة عندما يتأخر الفيض الحضاري، وتُظلم الأيام، وتسّوَد الليالي كما هي الحال الآن، بينما حال اليابان ليس كذلك.
2- جيران مصر من هم: الصحراء والليبيون حاضراً وماضياً، والسودانيون ماضياً وحاضراً، والعرب من خلال البحر الأحمر. ومصر في قلب العالم العربي ليس جغرافياً فقط، ولكن عسكرياً، وسياسياً، وثقافياً، ودينياً. فحالها من حال العرب، في حين أن اليابان ليست كذلك.
3- في مصر مؤسسة دينية سُنيّة تقليدية ضد الحداثة، والليبرالية، والتفكير العلمي، والتأويل الرشدي، والتغيير، وهي مؤسسة الأزهر. والمصريون يُكنون لهذه المؤسسة احتراماً وتقديراً وتقديساً كبيراً. ومهما أخطأت هذه المؤسسة، فيظل خطئوها أكثر صواباً ndash; عند العامة وما أكثرهم في مصر القديمة والحديثة- من صواب العَلْمانيين، والليبراليين، والحداثيين، والأفندية، وأصحاب quot;الياقات المُنشَّاةquot;. ولا يوجد مثيل للأزهر في اليابان.
4- حكم مصر المماليك العبيد أكثر من ستة قرون (1260-1805م) وخلّف حكمهم قيماً قروسطية خرافية (كما يشرح مسيو فورييه في كتاب quot;وصف مصرquot;) ما زالت راسخة حتى الآن. وكانت من أسباب فشل حملة نابليون على مصر 1798، حيث كان نابليون ينفخ في قربة مقطوعة. ويقول المفكر والفيلسوف القبطي المصري مراد وهبة في كتابه (مُلاّك الحقيقة المطلقة) (ص 302)، أن من بين أسباب فشل حملة نابليون على مصر وعدم تحقيق أهدافها الحضارية كان التعصب والصراع الديني. وقد جاء في كتاب quot;وصف مصرquot; الذي وضعه علماء حملة نابليون من رياضيين، وفلكيين، ومهندسين، وعلماء فيزياء، ومستشرقين، وأدباء ومعماريين.. الخ واستغرقت كتابته 13 سنة (1809-1822) وصدر في 11 مجلداً.. جاء في هذا الكتاب عن الصراع، والتعصب الديني، أن quot;الأقباط يعتبرون أنفسهم أحفاداً للمصريين القدماء. ودليلهم على ذلك، أن جنسهم استطاع أن يظل نقياً. وهم لذلك طاقة منعزلة، رغم الغزوات المتباينة من الرومان، والعرب، والعثمانيين. وما تزال هذه الطائفة منعزلة تماماً حتى اليوم، عن بقية الأجناس التي تُشكِّل الآن الجزء الأعظم من سكان مصر.quot; ويتردد هذا المعنى في كتاب (الأقباط في السياسة المصرية) لمصطفى الفقي، مستشار الرئيس مبارك السابق، ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشعب المصري، حيث يقول: quot;إن أكثر العوامل أهمية في تقوية وتعزيز الانطباع الذاتي للأقباط كان اكتشاف الماضي. فقد أدى اكتشاف مصر الفرعونية، وعملية إلقاء الضوء على روعة الحضارة المصرية القديمة إلى تجميع شمل الأقباط، كي يعثروا على هويتهم الحقيقية كمصريين ذوي تاريخ طويل.quot;(ص26). ويقول مراد وهبة أنه مقابل الهوية الفرعونية للأقباط، بزغت دعوة القومية الإسلامية بزعامة الأفغاني ومحمد عبده. واعتبر البسطاء في وادي النيل الإسلام هويتهم. وفي 1908 أعلن أخنوخ فانوس مشروع إنشاء quot;حزب مصرquot; كرد فعل قبطي على بروز الشخصية الإسلامية في السياسة المصرية. وذلك هو الصراع والتعصب الديني المحتدم حتى الآن.

-4-
أما الذين ينظرون إلى مصر من خلال بضعة ملايين تعيش في المقابر الآن (2% من السكان)، نتيجة للفقر، وزيادة عدد السكان المذهلة، وزحمة الحياة بشكل عام، لأن الشعب لم يلتزم بنداءات الحكومة المصرية، بشأن تحديد النسل، كما التزم الشعب الصيني. ونجحت الصين في تحديد النسل. وحققت نهضتها.. فهؤلاء مخطئون قطعاً.
فقد أحبَّ الصينيون وطنهم حباً فعلياً وليس غنائياً، فصانوه، وتعاونوا مع دولتهم، وحددوا نسلهم. أما المصريون فهم - في واقع الأمر- لا يحبون وطنهم رغم أنهم يتغنّون بحب هذا الوطن ليلاً نهاراً، ولكن قولاً لا فعلاً. ولو كانوا يحبونه لما عبثوا به كل العبث الآن، وأذلّوه كل هذا الذل، بكثرة المواليد، وبالسكن في المقابر، وتحت الكباري، وبكل هذا الزحام، حيث تقلُّ الخُطى، وتتعطل الحركة.
ومع ذلك، فمصر في ماضيها، ليست فقط أولئك الفراعنة المحنطين في قبورهم في quot;وادي الملوكquot; والأهرامات.
ومصر في حاضرها، ليست فقط أولئك الناس العشوائيين، الذين يسكنون المقابر، ويعيشون على هامش الحياة، ويشوهون صورة مصر الحضارة العريقة.
(دقَّ الجرس، ولم نكمل بعد، فلنا عودة).
السلام عليكم.