قرفي الدائم من السياسة العربية، دفعني إلى عدم الكتابة فيها، أو التعرض ليومياتها، بعد أن كتبت فيها زمنا طويلاً، ووجدت أننا (ننفخ في قربة مقطوعة) لا فائدة من النفخ فيها. وأن النفخ فيها يقطع الأنفاس، ويضيّع الوقت، ويُبخس القائل. وأن كتّاب السياسة في العالم العربي أصبحوا أكثر من القراء.
ولكن تصريح سعد الحريري، رئيس الوزراء اللبناني، أول أمس، عن القرار الظني المزمع أن تعلنه المحكمة الدولية، خلال الأيام القادمة، بخصوص مقتل رفيق الحريري، والذي من المنتظر أن تتهم به عناصر من quot;حزب اللهquot;، وقول الحريري لحسن نصر الله، أن هذه العناصر هي من quot;العناصر غير المنضبطةquot; لـ quot;حزب اللهquot;، تهدئةً من روع نصر الله، وتهويناً من تهمة quot;حزب اللهquot; باغتيال الحريري، كما سبق وفعل وليد جنبلاط مع سوريا في مقتل أبيه عام 1977.

ما معنى quot;عناصر غير منضبطةquot;؟
بادئ بدء أنا ndash; وأعذروا جهلي وتخلفي ndash; لا أفهم أبداً معنى عبارة quot;عناصر غير منضبطةquot;. وخاصة عندما تكون هذه العناصر من quot;حزب اللهquot;، ذي الانضباط الحديدي الصارم.
فمتى كان في quot;حزب اللهquot;، quot;عناصر غير منضبطةquot;، وهو الذي يُوصف بالحزب العسكري الهتلري الصارم في نظامه، صرامة نظام الجيش الهتلري الألماني، كما نرى عناصره في الاستعراضات العسكرية؟
ومتى سمح حزب الله لـ quot;عناصر غير منضبطةquot; بأن تكون بين صفوفه، وهو الحزب الذي يمشي كل أفراده على العجين فلا (يلخبطونه).
وهل أصبح quot;حزب اللهquot; ناد ليلي، فيه من السكارى و(الرُقَّع) quot;عناصر غير منضبطةquot;، كما نقرأ دائماً في تقارير بوليس الآداب، في حوادث (السُكْر) والعربدة في النوادي الليالي؟
وإذا ما صدر القرار الظني بتوجيه التهمة إلى عناصر من quot;حزب اللهquot; quot;غير المنضبطةquot;، فما هو موقف quot;حزب اللهquot; من ذلك.. هل سيشعل حرباً أهلية في لبنان، كما يهدد؟
وما ذنب لبنان أن يُحرق، إذا كانت quot;عناصر غير منضبطةquot; من quot;حزب اللهquot; تابعة لسوريا، أو تابعة لإيران، أو تابعة للشيطان، هي التي اغتالت الحريري. ولم تنزل قوات quot;موسادquot; من السماء لفعل ذلك، كما تنشر وسائل الإعلام quot;الحرةquot;، quot;الشفافةquot;؟
أسئلة كثيرة في هذا الزمن العربي الرديء والمالح، لكم أن تطرحوها حول quot;الانضباطquot; وquot;عدم الانضباطquot;، في الحزب الإلهي المقدس!
فعبارة quot;عناصر غير منضبطةquot;، عبارة سياسية خبيثة من العبارات البوليسية في العالم الثالث، لإخفاء عناصر من الخارجين.

هلع وجزع مَنْ؟
هلع quot;حزب اللهquot;، وجزع حسن نصر الله، ليسا هلع وجزع هذين الطرفين، بقدر ما هو هلع وجزع كفلاء وممولي وداعمي quot;حزب اللهquot; في لبنان، وعلى رأس هؤلاء سوريا، التي لا تحتاج في هذا المقام في التدليل عليها، إلى ذكاء كبير، وخبرة عميقة، في السياسة العربية الضحلة.
فسوريا - المالكة الحصرية للسياسة والأمن اللبنانيين الآن وقبل 1975 - هي القلقة والمصابة بالهلع والفزع من المحكمة الدولية، ولكن كبرياءها السياسي، ومركزها العروبي القيادي الزائف، لا يسمح لها أن تعلن ما أعلنه quot;حزب اللهquot;. وهي بالتالي ndash; وفي ظني ndash; قد أوعزت لـ quot;حزب اللهquot; لقول ما قاله، وإعلانه بأنه سيحرق لبنان، ويعيد مجازر أيام السابع من أيار 2008 (أخطر وأعنف ما شهده لبنان، بعد الحرب الأهلية) التي يقول عنها اللبنانيون (تنْزِكر وما تنعاد). ولعل موقف quot;حزب اللهquot; المعلن من القرار الظني المنتظر للمحكمة الدولية، وموقف سوريا المستور، يؤكدان من جديد مدى ارتهان لبنان لسوريا، حيث لا فكاك من هذا الارتهان إلا بقيادة لبنانية شجاعة، تعلن الفكاك من الفك السوري المفترس.

مظاهر الارتهان اللبناني لسوريا
فلبنان اليوم، أصبح مرتهناً لسوريا بفعل الجغرافيا والتاريخ. ومظاهر هذا الارتهان، تنحصر في أنه منذ الاستقلال اللبناني الظاهري عام 1943، (والذي لم يبقَ منه غير البذلات البيضاء، التي يلبسها في هذه المناسبة الرؤساء الثلاثة: رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، ورئيس الوزراء.) ظل لبنان يُحكم دائماً من دمشق. فلا قرار صغيراً كان أم كبيراً، محلياً كان أم إقليمياً أم دولياً، إلا وتتخذه سوريا. فرئيس الجمهورية اللبنانية تُعيّنه سوريا، ويبصم عليه مجلس النواب اللبناني. ورئيس الحكومة تشير عليه سوريا، وكذلك رئيس مجلس النواب.. الخ. والانتخابات النيابية والبلدية تقرر موعدها سوريا، وتتحكم بنتائجها سوريا. وسوريا قادرة على الخلاص من أي معارض لها في لبنان وبدم بارد، في معظم الأحيان، ولا تنتظر قراراً لبنانياً وطنياً في هذا الأمر، كما شهدنا في الفترات الماضية.
والمعاهدات الدولية، أو العربية، لا يوقعها لبنان إلا بموافقة سوريا. وقد يحتج، ويرفض بعض القراء، وخاصة من اللبنانيين هذه الأحكام.
وسؤالنا لهم:
- هل يستطيع لبنان توقيع اتفاقية تسليح الجيش اللبناني مع أية دولة أجنبية، دون موافقة سوريا؟
- وهل يملك لبنان قرار السلام مع إسرائيل لكي لا تظل رقبته (حدوده البرية) مقبوض عليها من سوريا فقط، تتحكم فيها كما تشاء، ووقتما تشاء؟
- وهل يستطيع لبنان رفض تفريغ صناديق المطار و(البور) والكازينو ليلياً من (الغلَّة) لصالح الحكم في سوريا؟
إن لبنان (المحافظة الخامسة عشرة، كما سبق وكتبنا) من أكثر المحافظات السورية ثروة وجمالاً وازدهاراً. وسوريا تحرص كل الحرص على زيادة هذه الثروة، وإبقاء لبنان في حضنها، وفي حمايتها، وتحت وصايتها، ورقابتها. وهو ما تقوم به منذ زمن طويل.
فمن قال لنا أن لبنان قد انفصل عن سوريا عام 1920؟
فذلك كان فقط في دفاتر الخارجية الفرنسية!
السلام عليكم.