لا يحسبن أحد أنني بهذا المقال أو بمقالات أخرى سابقة أو لاحقة بأنني أدافع عن عهد مبارك أو أدفع عنه تهمة الفساد المالي والعنف الذي استخدم في عهده في بعض رموز المقاومة علماً بأن عهده شهد أقل صنوف التعذيب والاضطهاد للمعارضة وكانت المعارضة طوال سنوات عديدة تقوم بصحفها ونقاباتها ومحاضراتها وندواتها ونشراتها إلى فضح مثالب هذا العهد وتنتقده نقداً مريراً، كما لم يُنتقد أي عهد مصري سابق منذ آلاف السنين. ولكن هذا كان غير كافياً. وكانت نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة 2011 هي القنبلة الموقوتة التي فجرت الأحقاد والضغائن وما في الصدور وقادها حزبان رئيسيان خسراً المعركة الانتخابية لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا وهما جماعة الإخوان المسلمين الدينية التي تسعى إلى استعادة الخلافة الإسلامية منذ عام 1928 ولم تفلح حتى الآن، لأنها تسير في الاتجاه المعاكس لروح العصر ومنطق التاريخ. والحزب الآخر حزب الوفد العلماني الذي خسر الانتخابات هو الآخر وتحالف مع الإخوان حلفاً سبق أن قام به لتحقيق أهدافه السياسية.

فساد وطغيان في كل العصور
إذن ما من أحد ينكر بأن كافة العهود المصرية منذ عهد الملك الفرعوني مينا (3200 ق. م) حتى عهد حسني مبارك كان الفساد والطغيان والاستبداد والظلم قائماً. ولن ينتهي هذا الفساد وهذا الطغيان والاستبداد والظلم بسقوط مبارك أو سقوط عهده. وما يُسقط الفساد والطغيان والاستبداد والظلم ليس سقوط الأنظمة، ولكن نهضة الشعوب. حكمة الشعوب وليست حناجر الجماهير الغوغاء. فهناك بون شاسع بين مفهوم الشعوب ومفهوم الجماهير. وكما قال الشاعر اللبناني انسي الحاج فإن أسوأ كلمة في اللغة العربية هي quot;الجماهيرquot;، التي تملك الحناجر ولا تملك العقول، وتملك الأصوات ولا تملك الأفكار. فالعقل quot;لا يوافق الجماهير، وتعاليمه لا تفقهها إلا نخبة من المتنورين.quot; كما يقول جمال الدين الأفغاني.

لم تعد الديمقراطية سياسية فقط
لقد أثبت لنا ما حصل في مصر منذ 25/1/2011 حتى الآن، أن الديمقراطية في أبسط معانيها، تتلخص في أمرين:
تركيز السلطة بيد الشعب، وضمان حقوق الأفراد وحرياتهم.
كما أن الديمقراطية، لم تعد ذات مضمون سياسي فقط. بل أصبحت كذلك، ذات مضمون اقتصادي واجتماعي، لا يقل أهمية في المجتمعات الحديثة عن المضمون السياسي.
فاقتصادياً، الديمقراطية لم تقطع دابر الصراع العنيف على الحكم، ولم تقلص من العنف السياسي الجماهيري إلى أدنى حد، إلا بفعل الحداثة الاقتصادية؛ أي تفوق معدلات النمو الاقتصادي على معدلات النمو الديمغرافي.

لا ديمقراطية للجياع
فمن المعروف أن أكثر من 50٪، من الشعب العربي يعيشون تحت خط الفقر. فالفقراء تعاملوا حتى الآن مع الانتخابات الديمقراطية بالاستنكاف عن التصويت (مصر)، أو ببيع أصواتهم (المغرب، والهند، ولبنان، والأردن، والعراق)، أو بالتصويت الاحتجاجي لأكثر الحركات الدينية تعصباً وعنفاً (مصر والجزائر والكويت).
فالديمقراطية لا تتأصل إلا في مجتمعات الوفرة، إلى درجة أن رئيس البنك الدولي السابق، يُقدِّر أن بلوغ متوسط الدخل الفردي السنوي عشرة آلاف دولار، هو الشرط المناسب لتوطين الديمقراطية (متوسط الدخل عام 2010 في مصر 2000 دولار فقط). عندئذ تتضاءل إمكانية التصويت الاحتجاجي والعنف السياسي، ويختفي بيع الأصوات، كما يقول العفيف الأخضر.
فالفقراء هم عادة في معظمهم ضحايا الأميّة والجهل. وهذا لا يساعدهم على وعي أهمية الديمقراطية كعامل استقرار سياسي، يساعد على التنمية الاقتصادية باستقطاب الاستثمارات الخارجية، وبإقناع الرساميل الداخلية بعدم الفرار. ولا يساعدهم فضلاً عن ذلك، على وعي أهمية حقوقهم المدنية. وهم الذين، لم يترك مطلب توفير لقمة العيش في رؤوسهم مكاناً لأي مطلب سواه، كما يقول العفيف الأخضر في quot;عوائق توطين الديمقراطية في العالم العربيquot;. ويضيف، أن الفقر لا يدع لضحاياه - الذين يستغرقهم النضال اليومي لمجرد البقاء على قيد الحياة - ترف الاهتمام بالرهان الديمقراطي الغريب عن اهتماماتهم، وتطلعاتهم اليومية.

كيف تبني مصر ديمقراطيتها؟
ومصر الآن، يوجد أمام بناء ديمقراطيتها، عائق كبير، وهو الفقر. ومن يقفز رأساً إلى ديمقراطية الهند quot;الفقيرةquot; فقراً كاذباً كالحِمْل الكاذب، وهي التي تجمع بين quot;الفقر الكاذبquot; والديمقراطية الدستورية. فالهند ليست فقيرة. فهي تحقق سنوياً نمواً اقتصادياً بحدود 6% منذ 15 عاماً، مما يرشحها لأن تصبح قوة اقتصادية عظمى. ونجاحها المذهل في المجالين السياسي والاقتصادي معاً وجنباً إلى جنب، يكمن في إدارتها العبقرية المتوازنة بين التنمية السياسية والاقتصادية. وهو ما نأمل أن يحققه المستقبل المصري، إضافة إلى نزع فتيل القنبلة السكانية الخطيرة، التي لا مجال لتنمية اقتصادية في بلد محدود الموارد في ظل انفجاراتها اليومية المدمرة.

كيف نتخطى عهد الفساد؟
لم يكن عهد مبارك هو مبارك فقط. ولكنه كان ndash; كما سبق وقلنا ndash; تركة عهود طويلة من الفساد والظلم والطغيان في العهد الخديوي والملكي والجمهوري، وقبل ذلك في عهود المماليك، والفاطميين، والأيوبيين، والعباسيين، والأمويين.. الخ. كما أن المصريين ndash; كشعب ndash; ساهموا في أخطاء وخطايا هذه العهد بالتواكل والكسل وعدم الإخلاص في العمل والخوف، كما قال بطرس بطرس غالي لمنى الشاذلي في قناة quot;دريمquot;.
إن عهد مبارك مهما كان فاسداً، ومهما كان مليئاً بالأخطاء والخطايا، لن نستطيع تخطيه، وبناء مصر الجديدة، ما لم نُصلح التعليم العام، والتعليم الديني على وجه الخصوص، وننظر إلى العمل بقيم جديدة، ونحد من تكاثر السكان العشوائي، ونفعل ما فعلته الهند، بإيجاد توازن دقيق بين التنمية السياسية والتنمية الاقتصادية، لكي لا يمدّ الناخب يده في جيب المرشَّح، قبل الذهاب إلى صندوق الاقتراع.
السلام عليكم.