-1-
لا مفهوم حضارياً وفلسفياً أُسيء فهمه من قبل السلفيين والأصوليين كالعَلْمانية.
ولا مفهوم حضارياً وفلسفياً حُظي بعناية السلفيين والأصوليين كالعَلْمانية.
ولا مفهوم حضارياً وفلسفياً سُبَّ ولُعنَ من السلفيين والأصوليين كالعَلْمانية.
ولا مفهوم حضارياً وفلسفياً قيل فيه ما قاله مالك في الخمر كالعَلْمانية.

-2-
وإذا أراد السلفيون والأصوليون تعليق مشنقة لمثقف ليبرالي، قالوا إنه عَلْماني رجيم.وإذا أراد السلفيون والأصوليون عزل مثقف ليبرالي وكرهه، قالوا إنه عَلْماني رجيم.
وإذا أراد السلفيون والأصوليون تأليب السلطة الأمنية على مثقف تنويري، قالوا إنه عَلْماني رجيم.وإذا أراد السلفيون والأصوليون طرد أستاذ من جامعته، أو صحافي من صحيفته، أو موظف من وظيفته، قالوا إنه عَلْماني رجيم.

-3-
فكيف يفهم السلفيون والأصوليون العَلْمانية؟إنهم يتفقون، على أن العَلْمانية إنكارٌ لوجود الله. لذا، كان العَلْمانيون أجمع - في نظر السلفيين والأصوليين - كفرة ملاحدة.
إنهم يتفقون، على أن العَلْمانية هدمُ الدين وإنكاره، وإنكار الرسل.
إنهم يتفقون، على أن العَلْمانية هدمٌ لأماكن العبادة، وحرمان الناس من العبادة.إنهم يتفقون، على أن العَلْمانية فصلُ الدين عن الدولة. وليس إبعاد رجال الدين عن السياسة. وليس فصل الدين عن السياسة. بمعنى إلغاء الدين من المجتمع، ومحوه من ذاكرة الناس.

-4-
ولكني رغم هذه الأباطيل السلفية والأصولية، فأنا عَلْماني!
فما هي عَلْمانيتي؟
عَلْمانيتي ليست ضد الدين، ولكنها ضد الدكتاتورية الدينية. وضد انهماك رجال الدين في السياسة، وضد اختباء السياسيين وراء الدين.
وليست ضد الحرية، ولكنها ضد الطغيان السياسي واجتماعي والثقافي. وليست ضد التعددية الدينية، ولكنها ضد الطرح الأيديولوجي الأوحد.
وليست ضد المساواة، ولكنها ضد الطائفية. وليست ضد التقاليد والعادات، ولكنها ضد ما يؤخر التقدم، ويجرّنا إلى الخلف، بدل تقدمنا إلى الأمام.
هذه هي عَلْمانيتي؟

-5-
عَلْمانيتي تريد فصل الدين عن السياسة، وليس فصل الدين عن الناس. فالدين روح الناس. وفصل الدين عن الناس معناه فناء الناس، وفناء الحياة.
لا أريد للدين المقدس، أن يتمرّغ في أوحال السياسة النجسة.لا أريد لرجال الدين أن يمتطوا ظهور السياسيين حميراً. ولا أريد للسياسيين أن يقبّلوا أقفية رجال الدين كهاناً وعرّافين.
أريد لرجال الدين مطلق الحرية في تفكيرهم، بعيداً عن تسلّط السياسيين.وأريد لرجال السياسة مطلق الحرية في قراراتهم، بعيداً عن سلطة الكهانة والكهنوت. لا أريد لرجل الدين أن يحكمني، لأن رجل الدين يحكمني، ولا أحاكمه.

-6-
لا علاقة لي بالعَلْمانية الفرنسية، ولا بالعَلْمانية الغربية، ولا بكل ما قيل في التراث الغربي عن العَلْمانية، ولا أحمل وزره.ولا علاقة لي بعَلْمانية الأتراك، وما فعله كمال أتاتورك عام 1923 في تركيا. فتلك عَلْمانية فوقية مستوردة من فرنسا، وهي خطرة من الناحية العقلية والثقافية كما يقول المعلم محمد أركون. ولا أحمل وزرها.
ولا علاقة لي بعَلْمانية الحبيب بورقيبة، فهي تخصُّ تونس والتونسيين فقط، وهي ربما نابعة من التراث الديني التونسي الخاص، ومن التراث التنويري العَلْماني الفرنسي الخاص. ولا أحمل وزرها.
فلكل مكان ولكل زمان عَلْمانيته، الخاصة به. ولا علاقة لي بكل المتطرفين العَلْمانيين والمتطرفين الليبراليين أيضاً. ولا أحمل وزرهم.
فكما أبغض التطرف في السلفية والأصولية في كافة الأديان والملل والعقائد، فكذلك أكره المتطرفين العَلْمانيين، والمتطرفين الليبراليين. ولا أحمل وزرهم.

-7-
لقد كان عبثاً وغثاً، لا طائل من ورائه، تلك المجلدات، والمقالات، والندوات، والفعاليات، والمخيمات، والمؤتمرات، التي عقدها السلفيون والأصوليون المتشددون، ووضعوا إسلامهم هم ndash; كما فهموه وفسروه وحدهم - في مواجهة العَلْمانية، وأقاموا بينهما حرباً خيالية ضروساً، وصراعاً ساذجاً وسخيفاً، كصراع الديكة العبثي.
يقول المعلم محمد أركون في كتابه (الإسلام والعَلْمنة): إن الإسلام بحد ذاته، ليس مغلقاً في وجه العَلْمانية، ولكي يتوصل المسلمون إلى أبواب العَلْمانية، عليهم أن يتخلصوا من الإكراهات، والقيود النفسية، واللغوية، والأيديولوجية، التي تضغط عليهم. ولن يتم ذلك إلا إذا أعاد المسلمون الصلة مع الحقيقة التاريخية للفكر الإسلامي.هكذا يفهم العَلْمانيون المسلمون العَلْمانية.
وهكذا أفهمها أنا المسلم كذلك.
لذا، فأنا مسلم عَلْماني!
السلام عليكم.