-1-
لا أريد هنا، أن أعقد مقارنة بين عهود الجمهورية الثلاثة (عبد الناصر، والسادات، ومبارك) ولكن أريد أن أعقد مقارنة سريعة بين عهدي عبد الناصر، وعهد مبارك، لكي تتضح لنا صورة هذا العهد الذي غضب منه بعض المصريين كما لم يغضبوا من قبل. ولهذا كله أسبابه التي سنأتي على ذكرها.
-2-
ما من أحد يشك أن عهد عبد الناصر، كان عهد الدكتاتورية المطلقة، التي تمَّ فيها حلُّ الأحزاب السياسية، وإغلاق صحف المعارضة، وتعليق المشانق لقادة وزعماء الإخوان المسلمين، وعلى رأسهم عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، ويوسف طلعت، وإبراهيم الطيب، وهنداوي دوير، ومحمود عبد اللطيف. هذا بخلاف من قتلوا جراء التعذيب خلال الفترة 1954 ndash; 1965. وتلا ذلك محاكمة عدد آخر من زعماء الإخوان المسلمين في عام 1966، وعلى رأسهم سيّد قطب، حيث قضت المحكمة العسكرية بإعدامه، مع كل من يوسف هواش، وعبد الفتاح اسماعيل.
كذلك، فقد تمَّ في العهد الناصري مطاردة وسجن زعماء حزب الوفد (فؤاد سراج الدين باشا) وغيره. كما تم سجن وتعذيب كبار الصحافيين وطردهم من المؤسسات الصحافية (علي أمين وأنيس منصور وغيرهما) وكبار المثقفين اليساريين (محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس ويوسف إدريس وغيرهم).
وهذا كله، إلى جانب انفراد عبد الناصر بالرأي الأول والأخير في مصر، ممثلاً للدكتاتورية السياسية في أكثر صورها وضوحاً وبشاعة.
وانتشر الفساد المالي في عهد عبد الناصر كما لم ينتشر في أي عصر آخر، من خلال سياسة التأميم العشوائية التي انتهجها. وقيام ضباط الجيش بالإثراء والاستيلاء على ثروات وعقارات الإقطاعيين والرأسماليين المصريين والأجانب. وقال الباحث الفلسطيني أسعد عبد الرحمن في كتابه (الإنماء السياسي في التجربتين الناصرية والبورقبيّة، 1981) quot;أصبح القطاع العام قوياً بحكم سيطرته على 91% من مجموع الاستثمارات و 83% من مجمل وسائل الإنتاج. كما سيطرت النخبة الحاكمة الجديدة، على مختلف مناحي الحياة السياسية المصرية. ووقع القطاع العام بأيدي ممثلي ]ائتلاف النواة[ الحاكمة والمتشكل من الضباط الأحرار.quot;
ومن يقرأ كتاب المؤرخ المصري حسين مؤنس (باشوات وسوبر باشوات)، وكتاب الباحث المصري شفيق مقار (قتلُ مصر: من عبد الناصر إلى السادات)، وكتاب عبد الله إمام (صلاح نصر يتذكَّر)، سوف يكتشف الكثير من هذه الحقائق.
ولكن ما أسعف النظام الناصري، وأخفى عيوبه، وطمس رذائله، وحوّلها إلى فضائل مزيفة، هو إعلام عبد الناصر المحلي المُسيَّس والمحاصر في ذلك الوقت، وعدم وجود إعلام المعارضة المصرية الحالي. وكذلك الحال كان مع النظام الساداتي من بعده. ولم تكن العولمة الإعلامية، وثورة المعلومات، والاتصالات، والفضائيات العربية منتشرة كما هي عليه الآن. لذا، تمَّ التعتيم وتكميم الأفواه على معظم الكوارث والمصائب التي حصلت في عهدي عبد الناصر والسادات، وخاصة في عهد عبد الناصر.
وما الكوارث والنوازل، التي تُحيق بمصر الآن، من فقر، وانفجار هائل للقنبلة السكانية، وعدم وجود فرص عمل كافية، وتأنيث المجتمع المصري نتيجة لهجرة الذكور الواسعة إلى الخليج والغرب، والفساد المالي والإداري، واختراق الجماعات السياسية/الدينية، وعلى رأسها quot;جماعة الإخوان المسلمينquot;، لأجهزة الأمن والشرطة، غير جزء من تراث وتركة، ورثهما مبارك من عهد عبد الناصر والسادات، إضافة لما جدَّ وزاد على ذلك، خلال ثلاثين سنة ماضية، من عهد مبارك.
-3-
ويبدو أن الحكم المدني، والمرونة السياسية، لعهد الرئيس مبارك طيلة ثلاثين عاماً (1981-2010)، وزيادة هوامش الحرية والديمقراطية في الإعلام، وغيرها من الخطوات الإيجابية، كانت سريعة، وغير محسوبة بدقة، وحارقة لمراحل مهمة. فقد كانت مصر قبل هذا الحكم المدني الديمقراطي الجزئي، تحتاج إلى إصلاحات مسبقة في التعليم - والتعليم الديني منه خاصة - وفي الصحة، وفي الاجتماع، الذي يمكن أن يتمثل بإقرار quot;مجلة أحوال شخصيةquot;، على غرار المجلة التونسية لعام 1956، بحيث يتم الزواج من امرأة واحدة فقط. ومنع تعدد الزوجات، وتحديد النسل بقوة القانون، مما سيقضي ndash; إلى حد كبير - على الزيادة السكانية المرعبة، ومساواة الرجل بالمرأة، في كافة الحقوق والوجبات، وخاصة بالميراث. وقد كان السادات - بعزم من زوجته السيدة جيهان السادات - قد دفع بقانون حداثي للأحوال الشخصية إلى مجلس الشعب المصري، ولكن اغتيال السادات، ومجيء مبارك، قد أعاقه وجمّده، على إثر اغتيال السادات، من قبل الجماعات الإسلاموية، وخوف مبارك منهم. وهو خوف امتد إلى التهاون واللين مع quot;جماعة الإخوان المسلمينquot;.
ومصر بحاجة ماسة إلى مثل هذه الإصلاحات الجذرية، أكثر من أية دولة عربية أخرى، سيما وأن تعداد سكان مصر بعد ثلاثين عاماً سيتضاعف ويصبح 160-170 مليوناً، حيث كان في عام 1952، 40 مليوناً فقط ثم قفز الآن إلى 85 مليوناً. سيما أن الأمم المتحدة أعلنت قبل مدة، أن مصر ومعها 27 دولة أخرى، سوف تكون عام 2014 تحت خط الفقر المائي، نتيجة للسدود التي ستبنيها الحبشة وجنوب السودان مستقبلاً على النيل. وفي هذا هلاك مصر لا محالة، لأن مصر منذ فجر التاريخ وما زالت، كانت فقط quot;هبة النيلquot;.
فكيف سيكون حال هذه quot;الهبةquot;، بعد تجفيف النيل؟!
-4-
جاء عهد مبارك، بعد عهدي الظلام والدكتاتورية اللذين عاشهما المجتمع المصري طيلة قرابة ثلاثين عاماً (1952-1981). ولكن يبدو أن المجتمع المدني الذي حاول عهد مبارك أن يبنيه، اختار له وقتاً مبكراً، وزمناً سريعاً، فلم يكن وقته قد حان بعد، ولم تكن أرضه جاهزة لمثل هذا البناء. وكان يحتاج إلى خطوات مسبقة كما ذكرنا آنفاً. فليست العبرة بالنيات ولا بإحكام الخطط، ولكن العبرة كل العبرة بتوقيت تنفيذها. فكانت محاولة بناء مبارك للمجتمع المدني ndash; قسراً - سبب هذا الزلزال السياسي العنيف، الذي ضرب مصر كلها، وأرغم مبارك بعد ثلاثين عاماً، على إعادة حكم العسكر، مرة أخرى، للشارع المصري، والإدارة المصرية، والسياسة المصرية (تعيين اللواء عمر سليمان نائباً للرئيس، والفريق أحمد شفيق رئيساً للوزراء). وهو العلاج (الكي بالنار) الذي لا بُدَّ منه في دول وشعوب العالم الثالث، حسب صموئيل هينتنجتون (صاحب مقولة صراع الحضارات) في كتابه (النظام السياسي في مجتمعات متغيرة)، الذي يقول فيه quot;إن المؤسسة العسكرية في العالم الثالث - الذي دخلته الحداثة السياسية متأخرة - لعبت دوراً شبيهاً بدور البروتستانت في الكنيسة المسيحية. فهي تحدَّت حكم الأقلية الدينية المتحكِّمة، وطوَّرت الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وشجعت على الاندماج الوطني. وفي بعض الأحيان قامت بتوسيع المشاركة السياسية. وحاولت القضاء على الأوساخ السياسية، والفساد، والتخلف. وقدمت للمجتمعات أفكاراً من إنتاج الطبقة الوسطى، ذات تأثير وشفافية وإخلاص وطني، كما فعل البروتستانت في أوروبا.quot;
(POLITICAL ORDER IN CHANGING SOCIETIES, P 203.)
السلام عليكم.
التعليقات