-1-
في الأمس رحل أبرز مفكر إسلامي حر وشجاع عرفته شخصياً، وهو محمد أركون. ويبدو أن عام 2010 هو عام الرحيل الجسدي عن هذا العالم، للمفكرين الإسلاميين الأحرار، الذين حطموا كثيراً من الطواطم السلفية والأصولية الدينية، وأزالوا بمثاقيبهم الفكرية الحديثة، أطناناً من الكلس، وجبالاً من الجبس المتراكم على حقيقة الإسلام، منذ 1500 سنة حتى الآن، بغية ndash; كما يدَّعون ndash; تجبير الإسلام من الكسور التي أصابته خلال 1500 سنة ماضية.
-2-
لقد شهدنا هذا العام، رحيل الكثيرين من الحفَّارين الليبراليين الشجعان، والذين لم يشهد تاريخ الإسلام والعرب مثيلاً لهم في هذه الفترة القصيرة والمحدودة، من النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، ومنذ 1500 سنة إلى الآن. وكان آخرهم في الأمس الحفَّار الأكبر محمد أركون، صاحب المثقاب الأغلظ والأصلب، الذي أعاد اكتشاف جانباً من الإسلام من جديد، للمسلمين والمستشرقين في الشرق والغرب على السواء.
-3-
إن رحيل هؤلاء جميعاً لا حسرة عليه. فالكل راحل. ولا بقاء لأحد. ولكن الخوف كل الخوف، من توقف الحفر والتفكيك الذي بدأوه بشجاعة وبأس شديدين. وعدم ظهور حفَّارين جُدد، يتابعون الحفر والتنقيب والتنقية، كما يفعل علماء الآثار أو علماء الآركيولوجيا (الدراسة الاثنولوجية والاثنوغرافية لحضارات شعوب بائدة، من خلال الحفريات التي يقوم بها علماء الآثار لاكتشاف المجاهيل) الذين أعادوا إلى الوعي الإنساني الكثير من حقائق الإسلام، وكان على رأس هؤلاء محمد أركون وصحبه في quot;رابطة العقلانيين العربquot;، وكذلك مجموعة من المفكرين العقلانيين من خارج هذه quot;الرابطةquot;. وهم الذين جميعاً كونوا التيار العريض والمتدفق لليبرالية العربية الجديدة، التي ورثت الليبرالية من جيل الأول (الأفغاني ومحمد عبده)، ثم من الجيل الثاني الذي تمثل بلطفي السيد، وطه حسين، وقسطنطين زريق، وعلي عبد الرازق، وسلامة موسى، ولويس عوض، وتوفيق الحكيم، وإسماعيل أدهم، وإسماعيل مظهر، وغيرهم.
-4-
الخسارة الكبرى برحيل أركون أو من سبقه هذا العام من المفكرين الليبراليين، تتمثل في الخوف من عودة تراكم الكلس والجير على قيم الإسلام من قبل quot;مهابيل الإسلامquot;، ومتعصبيه، ومختطفيه، والحاقدين عليه بحجة الخوف عليه من quot;أعدائهquot;. فلا أعداء مدمرين للإسلام قدر هؤلاء. والدليل موقف العالم كله (خارج العالمين العربي والإسلامي) من الإسلام والمسلمين عرباً، وعجماً.
-5-
معظمنا لم يلتقِ بأركون شخصياً، ولكن القلَّة منا قرأت له كتاباً أو كتابين، أو صفحة أو صفحتين، أو سطراً أو سطرين، أو كلمة أو كلمتين، فعرفنا أن هذا المفكر العظيم، كان بمثابة الحفَّار، الذي بمثقابه الفكري، استطاع أن يزيل أطناناً من الهلوسات، والشعوذات، والمضحكات المؤلمات، من أقاويل مجموعة كبيرة من quot;مهابيلquot; الإسلام، ومتعصبي الإسلام، ومختطفي الإسلام، وتجار الإسلام الذين يلوكون ويعلكون بأقوال مهترئة بالية، لم تُقَلْ لنا، في حاضرنا، وفي وعينا الحالي، ولكنها قيلت لأجدادنا، الذين عاشوا قبل 1500 سنة، ولم تعد عظامهم وبقاياهم في القبور، تسمع هذا الهراء.
-6-
لم يفهم مفكر عربي ومسلم معاصر، العلاقة بين الإسلام والحداثة، كما فهمها أركون، فكان نقد أركون للعقل الإسلام التائه، محاولة علمية وفكرية منه، لإعادة هذا العقل إلى جادة الصواب وليس نفيه، أو قتله، كما ظن البلهاء.
-7-
كان أركون يعتبر نفسه مفكراً خاسراً. لأنه لم يكن مقروءاً في العالم العربي كما يجب، حيث ظلت النخبة المحدودة جداً هي التي تقرأ كتبه، رغم الجهود الجبارة التي بذلها هاشم صالح لتعريب كتب أركون وشرحها. فكان هاشم صالح لأركون، بمثابة ابن رشد لأرسطو في التعريب والشرح والتذييل. ورغم هذا ظلت قراءة كتب أركون في العالم العربي ndash; الذي لا يقرأ أساساً ndash; عسيرة ومحدودة التوزيع. في حين كانت كتب أي سلفي آخر من الدرجة العاشرة، ومليئة بالشعوذة والدجل توزع مئات الآلاف من النسخ. أما في الغرب وفي فرنسا على وجه الخصوص، فقد اعتبر المستشرقون الفرنسيون أن طروحات أركون الإسلامية البنيوية الجديدة، كانت سبباً في تراجع الدراسات الكلاسيكية التقليدية. فجديد أركون طرد أو أزاح قديمهم.
-8-
لم يغتنم الإعلام العربي فرصة وجود محمد أركون بيننا، ليقدمه لجمهوره، الذي يتلهى كل ليلة بلقاءات الممثلين والممثلات السخفاء والسخيفات، والذي يزجي وقت فراغه في الاستماع ومشاهدة الأغاني الهابطة والمبتذلة، أو البرامج الصراخية المتشنجة كمناطحة الثيران الهائجة. وكأن الإعلام العربي بكافة وسائله قد آلى على نفسه أن يربي جيلاً عربياً جاهلاً ومثقفاً ثقافة منحطة، دون أن يقدم لهم طبقاً واحداً مفيداً. فلم يُستضف أركون مثلاً في أية فضائية إلا من أجل (بهدلته وتهزيئه) والسخرية منه، كما شاهدنا ndash; للأسف الشديد - حين التقى في برنامج صراخي، مع هُمام التكفيريين المصريين.
-9-
تفجيرات الإبداع الفكري التي قام بها محمد أركون منذ عشرات السنين في العقلية الإسلامية المعاصرة، كانت هي الوجه الآخر لنا نحن العرب والمسلمين. فلم تكن عمليات quot;القاعدةquot; الإرهابية في السعودية، والأردن، والعراق، وأفغانستان، وقبل ذلك في أمريكا، وأفريقيا وبعد ذلك في أوروبا، هي كل ما لدينا في مواجهة العالم. لقد كان لدينا مقابل جهيمان العتيبي وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأكوام كبيرة من السلفيين والأصوليين الانتحاريين الإرهابيين هذا العدد من المفكرين الليبراليين الشجعان، الذين رحلوا في هذا العام والذين ينتظروا الرحيل، وقد ملأوا حياتنا تفجيرات العقل لجبال وتلال من الشعوذات والهلوسات والهبل الديني/ السياسي.
-10-
هل جاءنا أركون مبكراً، وغادرنا مبكراً؟
لقد ظهر أركون كمفكر لامع في الثمانينات من القرن الماضي. كما كانت هذه الفترة زمن ظهور مجموعة من المفكرين الليبراليين البارزين (الموجة الثالثة من الليبرالية العربية)، في الوقت الذي ظهرت فيه الجماعات الدينية/ السياسية الانتحارية المسلحة، التي ملأت الشرق والغرب بالضجيج الإعلامي، وبقرع دفوف وطبول الجهاد والاستشهاد.
فهل هذا كان سبباً في أن أكثر من 95% من الشعب العربي يظن، أن أركون كان بائع (فلافل)، أو حلاقاً شعبياً؟
السلام عليكم.
التعليقات