لا أخفي عليكم، بأن الذي أوحى إليَّ بعنوان هذا المقال، هو الباحث والأكاديمي البحريني باقر سلمان النجار، في كتابه الوثائقي المهم quot;الحركات الدينية في الخليج العربيquot;، الذي فرغت من قراءته في الأمس.
الخطر الأعظم
فلماذا كانت الأصولية الدينية خطراً أعظم من الخطر الشيوعي، الذي دفع العرب الغالي والرخيص لإبعاده عن معظم أنحاء العالم العربي، وخاصة منطقة الخليج؟
فرغم أن هناك قواسم مشتركة بين الأصولية الدينية والماركسيةndash; من حيث لا تدري الأصولية الدينية بالطبع - منها محاولة كلتيهما إيجاد أصول ماضية للمستقبل المرجو، كما قرأنا في كتابات الماركسيين أمثال: حسين مروة، وطيب تيزيني، ومحمود أمين العالم، وغيرهم، كما يقول عزيز العظمة في كتابه quot;الأصالة أو سياسة الهروب من الواقعquot;. إلا أن هناك عدة أسباب، تجعل من الأصولية الدينية أكثر خطراً من الشيوعية على الدين والحياة، منها:
1- من المعروف، أن الرابطة الدينية في العالم العربي، أقوى من الرابطة الوطنية والقومية. وقد استغلت الأصولية الدينية هذه الرابطة، واستخدمتها لتحقيق أغراضها، بأن حوَّلت الدين - كما يقول باقر النجار - من نسق طقوسي وثقافي، إلى نسق وسياق أيديولوجي، لخدمة أهداف سياسية معينة.
2- وهناك سؤال، يبدو حائراً في منطقة الخليج خاصة، وهو: كيف تحوّلت الدعوة الدينية، من دعوة وعظية إلى دعوى سياسية؟ والإجابة عن هذا السؤال سهلة، وهي: أولاً، أن الدعاة الوعظيين، وأتباعهم في الخليج العربي خاصة، تأثروا بخطاب جماعات الإسلام السياسي (وخاصة الإخوان المسلمون) في مصر وسوريا. ثانياً، إن هجرة زعماء الإخوان المسلمين من مصر وسوريا إلى الخليج، إبان الاضطهاد الناصري والبعثي، كان من أكبر هذه الأسباب. وثالث هذه الأسباب، احتضان بعض أنظمة الحكم في الخليج لزعماء الإخوان المسلمين الهاربين من مصر وسوريا. أما السبب الرابع والأخير، فهو توفر الأرضية الدينية الأصولية المناسبة في الخليج، لدعوة الأصوليين من الإخوان المسلمين.
3- إن الأصولية الشيوعية في العالم العربي، منذ أن تأسس أول حزب شيوعي في العالم العربي، في فلسطين عام 1919، لم تتحول إلى جماعات إرهابية، كما تحوّلت الأصولية الدينية، بعد الثمانينات من القرن الماضي، وإلى وقتنا الحاضر. فلم يعرف العالم العربي الإرهاب حتى مطلع الثمانينات من القرن الماضي ndash; ما عدا ما جرى في مصر في الأربعينات من قبل التنظيم السري التابع لجماعة الإخوان المسلمين الذي اغتال الخازندار، والنقراشي باشا. وكذلك اختطاف واغتيال quot;جماعة التكفير والهجرةquot; عام 1977 للشيخ الذهبي وزير الأوقاف المصري ndash; إلا عندما تحوّلت الجماعات الدينية في العالم العربي، وخاصة في منطقة الخليج من جماعات دينية دعوية وعظية، إلى جماعات سياسية إرهابية مسلحة.
4- منذ أن بدأت الأحزاب الشيوعية نشاطها في العالم العربي، مطلع القرن الماضي، كان موقفها السلبي من الدين واضحاً وجلياً، لا غموض فيه، ولا مداراة. وكانوا يقولون: quot;ها نحن.. من يقبل بنا، فأهلاً، ومن يرفضنا، فذلك شأنه.quot; أما الأصولية الدينية، فهي تتلون بألف لون ولون، وتعمل تحت أسماء مختلفة ومتعددة، في كل فترة، وفي كل ظرف. فهم (الأصوليون الدينيون) مثلاً ndash; كما يقول المفكر الكويتي خلدون النقيب في كتابه quot;آراء في فقه التخلفquot; ndash; يطالبون بالحريات العامة، ويدافعون عنها، ولكنهم ينسفونها بمطالبة الحكومات باشتراع قوانين تُلغي هذه الحريات، أو تقيدها. وهم يرفعون شعار الدفاع عن المستضعفين وأموالهم، بينما هُم يستولون على هذه الأموال (الزكاة والتبرعات) لبناء إمبراطوريات مالية، تخدم أغراضهم. وهم ينادون بالشورى بدلاً عن الديمقراطية، ولكننا نراهم، لا يطبِّقون لا الشورى، ولا الديمقراطية.
5- لا تدعي الشيوعية أنها تسعى إلى تطبيق الديمقراطية، بل هي تُعلن عن نفسها ndash; كما كان الحال في الاتحاد السوفيتي، وكما هو الآن في الصين وكوبا ndash; بأنها دولة الرجل الواحد، ودولة ديكتاتورية الحزب الواحد، حيث لا تعددية سياسية في البلاد، التي تحكمها. أما الحركات الأصولية الدينية - وخاصة جماعة الإخوان المسلمين ndash; فهي تدّعي quot;الديمقراطية الممسوخة المشوهةquot;، كما يقول المفكر الكويتي خلدون النقيب في كتابه quot;آراء في فقه التخلفquot;. وهذا الإدعاء، يهدف إلى quot;تدمير التجربة الديمقراطية، وإفراغ الدستور من محتواه، والتضييق على الحريات التي كفلها الدستور، والمناورة لإصدار قوانين غير دستورية. وهذا هو الوجه القبيح للديمقراطية الأصولية الدينية، حسب وصف النقيب.
6- أصبحت تخريجات الفقهاء ndash; حسب النقيب ndash; واجتهاداتهم مقدسة، يخاف أشجع العلماء أن يُخضعها لمنطق العقل، ومتطلبات العصر والواقع. وكان علماء quot;الصحوةquot; في السعودية قد أعلنوا، أن quot;لحومهم مسمومةquot;؛ أي لا نقد، ولا نقاد لهم. فالليبرالية التي سادت في النصف الأول من القرن العشرين ارتدت، ونشأت الهيمنة الأصولية الدينية، في نهايات القرن نفسه، نتيجة لذلك، والتي تمثلت بمفهوم الحاكمية، وشرعنة الإرهاب باسم quot;الجهاد المقدسquot;. علماً بأن طبقة هؤلاء الأصوليين الدينيين طبقة أقلية، لكنها ndash; كما قال تركي السديري رئيس تحرير جريدة quot;الرياضquot;، 25/8/2010 - تأخذ مهابة الحضور، من إيحاء أنها الصفوة.
7- وأخيراً، فإن الأصولية الدينية كانت أخطر على العرب من الشيوعية، لأن الأصولية الدينية غيَّبت الإرادة السياسية، وأضعفت الرؤية المستقبلية، فأصيب العرب ndash; بما يُطلق عليه النقيب ndash; quot;التخلف الخالص الثقافيquot;. وهو التخلف الناتج عن استشراء ثقافة التسلط والاستبداد، في ضمير الأفراد، إلى درجة يصعُب معها طرح مشروع تطبيق عملي للديمقراطية والدستورية. فتتم بذلك عملية تزوير الديمقراطية وتشويهها، بآليات ديمقراطية كصناديق الاقتراع مثلاً، وكما جرى في العراق، منذ أكثر من خمسة أشهر.
السلام عليكم.
- آخر تحديث :
التعليقات