-1-
مشكلة الحكام الدكتاتوريين، أنهم عند لحظة الحساب والعقاب، والإمساك بهم متلبسين بجرم الفساد والإفساد، ينكرون علمهم بهذا الفساد والإفساد، ويطلبون السماح والغفران. وهم الذين كانوا يعلمون علم اليقين دبيب النملة على أرض أوطانهم، ويعلمون بالعيون، والآذان، والمراصد، ما يخفى حتى على الآلهة!
وهكذا قال بن علي، في آخر خطاب له:
quot;لا أعلم بالفساد.quot;
وأضاف أسيفاً، كسيفاً، حسيفاً:
quot;غلَّطوني أحياناً بحجب الحقائق، وسيحاسبون.quot;
وأضاف quot;أنا فهمتكم .. فهمت الجميع، البطال والمحتاج، والسياسي، واللي طالب مزيد من الحريات.. فهمتكم.. فهمت الكل.quot;
ولكن سبق سيف الشعب العذل، وقُضي الأمر!
فلا أسف يُقبل على مكروه، جرى خلال 23 عاماً في الحكم.
كذلك قال عبد الناصر، بعد انفصال الوحدة المصرية ndash; السورية عام 1962، بأنه لم يكن يعلم بجرائم عبد الحميد السراج (نائب الرئيس في سوريا). كذلك لم يكن يعلم بجرائم مدراء الاستخبارات وبالتعذيب الذي كان يتم في السجون المصرية للمعارضين.
وعندما وقعت هزيمة 1967، قال بأنه لم يكن يعلم التسيب والفساد في صفوف قادة الجيش.
فمن كان يعلم إذن؟!
أما القذافي فلا يعلم بالفقراء في ليبيا، ولا بالمعارضة الليبية، ولا بما يجري من فساد ونهب لأموال ليبيا من قبله، وقبل أولاده والمنتفعين من حوله.
فمن يعلم إذن؟!
كذلك كان الحال مع صدام حسين، والآن مع علي عبد الله صالح، وبشار الأسد، وبوتفليقة، وغيرهم.

-2-
انتفاضة الشعب التونسي، تتهددها الأصولية الدينية التونسية، المختبئة في كهوفها المظلمة داخل تونس، والمنتشرة في أحياء العرب والمسلمين الفقيرة في أوروبا، وخاصة في بريطانيا وفرنسا.
فلا خوف على الانتفاضة التونسية إلا من الردة إلى ما قبل 1956 (وهو العام الذي صدرت فيه quot;مجلة الأحوال الشخصيةquot;) والتي يمكن أن يقودها الأصوليون الدينيون، وجماعات quot;الإسلام السياسيquot; في تونس وخارجه، المتربصون بالتركة والتراث الحداثي البورقيبي السياسي، والاجتماعي، والديني، والتعليمي.
والأصوليون الدينيون التونسيون لا مانع لديهم على الإطلاق، من التحالف مع الشيوعيين، وباقي القوى اليسارية، ليس للإطاحة بنظام بن علي فقط، ولكن للإطاحة بما بناه بورقيبة في الاجتماع (مجلة الأحوال الشخصية) والإصلاح التعليمي الديني في جامعة الزيتونة، وغيرها.
فالهدف ليس بن علي ونظامه فقط.
ولكن الهدف تراث بورقيبة، وتركته الإصلاحية، بل ثورته الإصلاحية.
فهم ضد الزواج بامرأة واحدة فقط، لأن معظم القياديين منهم لديه أربع زوجات.
وهم ضد مساواة المرأة بالرجل.
وهم ضد منع الحجاب والنقاب، وكل المورثات الجاهلية، التي منعتها quot;مجلة الأحوال الشخصيةquot;.
وهو ضد صناعة السياحة، التي تعتبر عصب الصناعة الأولى في تونس، ومصدر الدخل القومي الرئيسي.
وهؤلاء الأصوليون الخطرون، الذين قالوا في الأمس أنهم يستعدون للعودة إلى تونس، كانوا خلال أكثر من نصف قرن، منذ 1956 يبحثون عن فرصتهم لإعادة تونس إلى ما قبل 1956. وربما ينتهزون فرصة الانتفاضة الحالية ndash; أو هم فعلوا ذلك، بمساندة الإعلام العربي اليميني المجلجل - ويقومون بالردة، سيما وأن المجتمع التونسي ndash; كأي مجتمع عربي ndash; مجتمع متدين، وهناك من الرجال والنساء من هم غير راضين عن أحكام quot;مجلة الأحوال الشخصيةquot; وخاصة قانون الزواج بواحدة فقط. فالرجال، يشكون عدم كفايتهم من المتعة واللذة الجنسية، والنساء يعانين من العنوسة، وقلة الأزواج.
ولكن السؤال:
هل سيسمح الغرب بعودة هؤلاء إلى الحكم، وتنفيذ quot;الردةquot; المبتغاة، مع العلم أن تونس، من أكثر الدول العربية ارتباطاً ثقافياً واقتصادياً بالغرب، وللغرب مصالح واستثمارات كثيرة في تونس؟
بعض الآراء الشجاعة تقول:
دعوا الأصوليين يحكمون ndash; كما في غزة وإيران والآن في العراق (حزب الدعوة) الإسلامي - لنر ماذا سيحققون من انجازات. ولكي نتجاوز حكم الأصوليين في تونس إلى الأبد تصديقاً لقول هيجل: quot;لكي نتجاوز مرحلة تاريخية ما، لا بُدَّ من ممارستهاquot;. وقوله كذلك: quot;لمعرفة ما بداخل حبة الجوز علينا كسرهاquot;. وبدون ممارسة حكم الأصوليين، سيظل هاجس الشارع التونسي وأحلامه في رؤية quot;الخلافة الإسلاميةquot; في تونس قائماً.

-3-
لو كان العرب بمقدورهم أن يسلكوا المسلك السياسي لبورقيبة (خذ وطالب) و (اجلس وتفاوض)، والإصلاح الاجتماعي والديني الذي تضمنته مواد ونصوص quot;مجلة الأحوال الشخصيةquot; لفعلوا، وانتفضوا بعد ذلك، مثلما فعل التونسيون، ولأصبحوا قادرين الآن على الثورة، كما ثار الشعب التونسي.

-4-
يجب أن لا يغيب عن بالنا، أن الانتفاضة التونسية، ليست وليدة الأمس، وليست نتاج الجوع والفقر، الذي تعاني منه تونس منذ قرون طويلة، وليس سببها، ذلك البائع المتجول (محمد بوعزيزي) الذي أشعل النار بنفسه، ثم أشعل الانتفاضة الشعبية في شوارع تونس. فقد سبق لطابور طويل من المفكرين والمثقفين التونسيين، أن أشعلوا النار في رؤوس التونسيين قبل أن يشعلها بوعزيزي في نفسه، وفي الشارع التونسي، ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين وقبل ذلك. ولولا هؤلاء جميعاً لما استطاع بورقيبة تطبيق نصوص quot;مجلة الأحوال الشخصيةquot; على الواقع التونسي. ولو وُجدَ وقام الحبيب بورقيبة في أي بلد آخر غير تونس، وبين أي شعب آخر غير التونسيين، لما استطاع أن يفعل شيئاً لانعدام الأسس، ولنُصبت له المشنقة، أو اغتيل، أو رُمي بالبيض الفاسد والطماطم الخاسرة كما فعل به الفلسطينيون في أريحا عام 1965، أو أصبح زنديقاً كافراً خارجاً من الملَّة كما أفتى الأزهر، والشيخ عبد العزيز بن باز، أو أصبح عميلاً وخائناً كما قال عبد الناصر، وبوقه أحمد سعيد في (صوت العرب).
انتفاضة الشعب التونسي، نتاج الفكر العربي والإسلامي التونسي. فتونس هذا البلد الصغير بحجم أرضه، والصغير بعدد سكانه، أنتج من الفكر العربي والإسلامي الحداثي والليبرالي في النصف الثاني من القرن العشرين، ما لم ينتجه أي بلد عربي آخر كمصر مثلاً. فدور المفكرين التونسيين الليبراليين الجُدد كمحمد الشرفي، ومحمد طالبي، ومنجية السواحي، وعبد المجيد الشرفي، والعفيف الأخضر، وسلوى الشرفي، ومحمد شريف فرجاني، وهشام جعيط، ورجاء بن سلامة، والحبيب الجنحاني، وإقبال الغربي، وفتحي بن سلامة، وأمل قرامي، وغيرهم كثيرون وغيرهن كثيرات، من مثقفي ومثقفات تونس ومفكريها. وهؤلاء وغيرهم هم مثقفو ومفكرو عصر التنوير التونسي في النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة.
وهم حماة تراث بورقيبة الحداثي.
وهم فكر الثورة التونسية، كما كان روسو وفولتير ومونتسكيو وتوم بين وغيرهم فكر الثورة الفرنسية.

-5-
وأخيراً، كيف يمكن لشعب كالشعب التونسي الذي حقق كل هذه الانجازات السياسية والدينية والثقافية، أن يُحكم كما يُحكم الشعب الليبي، أو الشعب اليمني الآن مثلاً؟
كيف يمكن لشعب كالشعب التونسي، أن يُحكم طيلة 23 سنة، من قبل نظام سياسي، جعل تونس تُصنَّف من قبل جماعات حقوق الإنسان الدولية، وكذلك الصحف الغربية المحافظة مثل quot;الإيكونومستquot; بالدولة الاستبدادية حيث وضع quot;مؤشر الديمقراطيةquot; لـ quot;الإيكونومستquot; 2010 تونس، في الترتيب 144 من بين 167 بلداً شملتها الدراسة.
صحيح، ولا جدال، أن تونس كان يحكمها ديكتاتور مستبد، وأن لا ديمقراطية حقيقية، لا في العالم العربي والعالم الثالث، ولا في تونس أيضاً.
ولكن تبقى تونس في عهدي بورقيبة وبن علي، الطريق الحداثي التي فُتحت، وامتدت عشرات الكيلومترات، ولكنها لم تكتمل بعد!

السلام عليكم