عادت تونس مؤخرا إلى الواجهة نتيجة الاحتجاجات التي وقعت في مدن الوسط الغربي للبلاد. و من الطبيعي أن يتبع ذلك سيل من التحاليل عن الأسباب و المسببات و ما يجب القيام به لتلافي ما حصل في المستقبل. أود أن أركز في هذا المقال على نقطة هامة ألا و هي الخطأ الذي وقع فيه معظم من شككوا في سلامة الخيارات الأساسية التي اعتمدتها الدولة التونسية منذ حصولها على الاستقلال.

الخيار الأول هو خيار الحداثة الذي انتهجه الزعيم الحبيب بورقيبة، و الذي تم تدشينه اقل من خمسة أشهر بعد حصول الدولة على الاستقلال، بإصدار قانون المرأة في شهر أغسطس 1956، الذي الغي تعدد الزوجات و وضع حدا أدنى بعمر 18 سنة لزواج الفتيات. كما تم وضع حد لابتزاز الزوجة في حالة الطلاق بجعله مدنيا لا يتم إلا بصدور حكم من المحكمة يحمي حقوق المرأة المطلقة في مجال حضانة الأطفال و السكن و النفقة. و تم تعميم التعليم العصري المستلهم من المناهج الفرنسية، بالتوازي مع دمج المناهج الدينية التقليدية التي ثبت فشلها في برامج التعليم الحكومية.كما تم تتويج هذه العملية الثورية بإتباع سياسة حازمة لتحديد النسل.

أما الخيار الثاني فهو يتمثل في التعاون مع الدول المتقدمة ndash;بدلا من مناطحتها و التصادم معها- و في مقدمتها القوة الاستعمارية السابقة فرنسا، التي عمل الحبيب بورقيبة جاهدا للاستفادة من خبراتها في مجالات التنمية، و هو خيار معاكس لخيار عبد الناصر و باقي الأنظمة العربية quot;التقدميةquot; التي دعت في منتصف الستينات من القرن الماضي إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا بدعوى اعترافها بإسرائيل.

و أما الخيار الثالث الذي ولد من رحم التجربة الاشتراكية الفاشلة، فقد اعتمد على سياسة جديدة تهدف إلى تطوير الصناعات التصديرية، بما فيها السياحة، منذ سنة 1972. و هو التوجه الذي تعزز بمصادقة تونس على اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي منذ سنة 1995.

يكفي أن نذكر بان صواب هذه الخيارات الإستراتيجية يتأكد بفشل كافة البدائل الأخرى التي جربتها باقي الدول العربية، بدليل أن نفس هذه الدول تسعى اليوم جاهدة للسير على نفس الخطوات التونسية لكن بعد تأخير كلفها غاليا. و لغة الأرقام لا تترك أي مجال للشك.

حققت تونس أعلى نسبة نمو اقتصادي على المدى الطويل في الدول النامية ndash; باستثناء النمور الآسيوية ndash; بمعدل سنوي يقارب 5%، بالتوازي مع انخفاض تدريجي لنسبة زيادة عدد السكان. و كانت النتيجة تحقيق معدل لدخل الفرد التونسي بحدود 3600 دولار مقارنة بمعدل 3100 دولار في المغرب و معدل 2600 دولار في مصر. أما العمر المتوقع عند الولادة فهو على التوالي 74،5 سنة و 73،9 سنة و 72،2 سنة. و هذا نتيجة الدخل و كذلك الخدمات الصحية الأفضل، بما فيها مياه شرب الآمنة التي تتوفر لنسبة 99% من التونسيين، و كذلك خدمات الصرف الصحي الملائم الذي يتوفر لنسبة 85% من سكان تونس، مقارنة بنسبة 66% من سكان مصر و نسبة 72% من سكان المغرب (المرجع: مؤشرات التنمية الدولية، البنك الدولي).

التحاليل التي انهمرت من كل حدب و صوب لتفهم الحالة التونسية نبهت في معظمها إلى نقص في التنمية في مناطق الوسط الغربي، مصدر الاحتجاجات الأخيرة. و مع أن هذه حقيقة واقعة إلا انه لا يمكن تجاهل الحقيقة الأخرى ألا و هي أن كل الاقتصادات في العالم تعرف فوارق هامة في النمو بين مختلف المناطق. و الخيار التونسي بشان اقتصاد السوق الموجه نحو الأنشطة التصديرية ليس مسئولا عن ذلك، و إلا لما رأينا كل هذا الفارق بين المناطق الساحلية في الصين و مناطقها الداخلية التي مازالت تشكو فقرا مدقعا.

أما بخصوص البطالة، فالأهم من وجهة نظري يخص نوعية البطالة الموجودة في تونس، والتي تتركز في صنف طالبي العمل لأول مرة الذين يمثلون 43، 4% من الإجمالي، من بينهم 25% من مجموع العاطلين من حاملي الشهادات الجامعية. بطبيعة الحال كون نفس الشيء يحصل في عدد من الدول الأخرى لا يبرر عدم تداول المسالة بجدية. بالنسبة للفئة الأولى من غير الجامعيين، يتوجب مراجعة البرامج الحالية للتكوين المهني سواء في المراكز المتخصصة لذلك و في المؤسسات الصناعية و الخدمية التي يمكن أن تسهم بصفة اكبر في تدريب هؤلاء الشبان. أما بالنسبة للجامعيين فلن تكفي برامج التوجيه و التدريب و القروض الصغيرة التي يمكن منحها للذين يودون إنشاء مشاريع خاصة بهم، رغم أهميتها. الأولوية هنا يجب أن تعطى لمراجعة البرامج الجامعية المطروحة و تقييم مدى ملاءمتها لمتطلبات سوق العمل. ليس من المعقول أن يتم توجيه نصف الطلبة إلى كليات تدرس القانون و الإنسانيات، بينما الاقتصاد يعتمد على الصناعات و الخدمات الموجهة للأسواق الخارجية. كما من غير المعقول ألا توجد كليات بمستوى التعليم العالي متخصصة في السياحة في بلد يعتمد أساسا على هذا القطاع منذ بداية الستينات من القرن الماضي. و يمكن أن نقول نفس الشيء بالنسبة للنسيج و الملبوسات حيث تم إنشاء مدرسة واحدة للمهندسين في هذا التخصص. بينما تمكنت دول أخرى من الارتقاء في هذا المجال بالتكوين في معاهد التصميم و الموضة، بما فيها الصين و حتى المغرب.

المطلوب إذا إعادة هيكلة الكليات الحالية و إعادة توجيه برامجها من التخصصات التي لا تلقى طلبا في سوق العمل إلى التخصصات التي تتماشى و التوجهات العامة للتنمية في البلاد. و من المهم دعم هذا الاتجاه بتوفير منح مالية للطلبة الذين يفضلون الالتحاق بمؤسسات القطاع الخاص، بالتوازي مع تشجيع إنشاء جامعات مرموقة على يد التونسيين و كذلك بتشجيع الجامعات الدولية على فتح فروع لها في تونس. و في النهاية يحب ألا ننسى أن الانفتاح على الخارج يتطلب مراجعة سلبيات تعريب التعليم الأساسي و الثانوي التي تم تنفيذها في بداية الثمانينات من القرن الماضي، و ذلك بهدف الارتقاء بمستوى تدريس اللغات الفرنسية و الانجليزية.
و العقل ولي التوفيق
[email protected]