حققت سنغافورة اكبر معجزة اقتصادية على مدى العقود الخمسة الماضية، بتحولها خلال هذه الفترة من دولة متخلفة إلى دولة متقدمة. و بالرغم من وجود عوامل متعددة ساعدت على تحقيق هذه المعجزة، إلا انه لا يوجد شك لدى الخبراء بان حجم و جودة الإدارة العمومية في سنغافورة كانت احد أهم هذه العوامل، إذ اكتفت هذه الدولة الطموحة بما يقل عن 50 ألف موظف حكومي لإدارة بلد يبلغ عدد سكانه قرابة 5 ملايين نسمة حاليا، أي حوالي 10 آلاف موظف حكومي لكل مليون نسمة.

في المقابل، بلغ عدد موظفي القطاع الحكومي 141 ألف في الأردن (23 ألف لكل مليون مواطن)، 288 ألف في تونس (27 ألف مقابل كل مليون مواطن)، 356 ألف في سوريا (18 ألف مقابل كل مليون مواطن) و 4،6 مليون في مصر (60 ألف مقابل كل مليون مواطن). و يعني هذا أن القطاع الحكومي في الدول العربية يشغل أضعاف العدد الضروري لإدارة البلاد.

كان تضخم القطاع الحكومي المشار إليه نتيجة حتمية للسياسات المتبعة منذ حصول الدول العربية على الاستقلال، حيث تم استعمال الادارات العمومية و الوزارات كمصدر للتشغيل و تحقيق أهداف اجتماعية أخرى مثل توفير وظائف في المناطق الفقيرة و النائية. لكن التقييم الموضوعي لهذه السياسة يشير لانعكاسات سلبية كبيرة منها إثقال كاهل الموازنة الحكومية مما أدى إلى عجزها السنوي المزمن و ارتفاع الدين العام عل المدى الطويل.

لكن ما أود التأكيد عليه في هذا المقال هو أن الاستمرار في توفير الوظائف الحكومية أدى إلى نتيجة عكسية أيضا فيما يخص الهدف الأساسي للحد من البطالة. فزيادة عدد الموظفين في القطاع الحكومي لا يمكن إلا أن يكون على حساب الرواتب بحكم محدودية دخل الدولة و التزاماتها المتزايدة، مما أدى إلى ضعف في الأداء و حد من قدرة الاقتصاد الوطني على النمو و توفير العمالة. فالمعدل السنوي لنسبة النمو الاقتصادي في الدول العربية عل مدى العقود الخمسة الماضية لم يتجاوز حدود 4% الى 5%، و هو اقل بكثير من نسبة 6،5% الضرورية حسب تقديرات البنك الدولي للحد من البطالة في هذه الدول.

كما تتلاعب بعض الدول العربية بوظائف القطاع العام لتحقيق مآرب آنية، مثل اتخاذ قرارات اعتباطية بإحالة آلاف الموظفين على التقاعد المبكر و تعويضهم بموظفين جدد من خريجي الجامعات، مما يزيد من طابور العاطلين الذين ينتظرون وظائف في الوزارات و يثقل كاهل صناديق التقاعد، و لا يساعد في نهاية الأمر على حل مشكلة البطالة.

اليوم و معظم الدول العربية تقوم بمراجعة سياساتها الاقتصادية التي ثبت فشلها، من المهم مراجعة دور المؤسسات الحكومية و نظم الحوافز و التوظيف لديها بما يتماشى و متطلبات الجدوى و يساعد على تنافسية الاقتصاد الوطني في الأسواق الخارجية.

كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي
[email protected]