في مقال أخير بعنوان quot;أمريكا... هل ستنهارquot; نشرته إيلاف بتاريخ 14 نوفمبر الجاري على صفحة quot;جريدة الجرائدquot; فند د. عبد الله المدني التفكير بالتمني الشائع لدى شريحة واسعة من المثقفين العرب الذين يبشرون بقرب خسارة أمريكا لمركزها الريادي الحالي كقوة عالمية وحيدة. و أود أن أركز في هذا المقال على بعض النواحي الاقتصادية التي تعزز رأي د. عبد الله المدني في هذا الشأن.

تأتي أمريكا في المرتبة الخامسة عالميا في المؤشر العام لسهولة مزاولة الأعمال الذي ينشره البنك الدولي، و هي نفس المرتبة التي تحتلها في مجال حماية حقوق المستثمرين، بينما تأتي في المرتبة 8 عالميا في الالتزام بتنفيذ العقود، مما يعني وجود نظام قضائي مستقل و فعال في الدولة. و تنعكس هذه الديناميكية الكبرى للاقتصاد على تنافسية السلع و الخدمات الأمريكية في الأسواق الخارجية، إذ تحتل أمريكا المرتبة الأولى عالميا في مؤشر التنافسية الذي يصدره منتدى دافوس الاقتصادي العالمي.

و بما أننا في عصر اقتصاد المعرفة، من المهم التنويه بان الجامعات الأمريكية كان لها على الدوام نصيب الأسد ضمن العشرين جامعة الأوائل عالميا في مجال البحوث، حيث تتصدر 17 جامعة أمريكية القائمة منذ سنوات، بالإضافة لثلاث جامعات أخرى و هي كامبريدج و أكسفورد في بريطانيا و جامعة طوكيو في اليابان. كما يقارب نصيب أمريكا 200 جامعة من ضمن أفضل 500 جامعة في العالم. و هذا ما يفسر جوائز نوبل في العلوم التي أصبحت شبه حكر على باحثي الجامعات الأمريكية أو باحثين من اليابان و أوروبا سبق و أن تلقوا تكوينهم العلمي في كبرى الجامعات الأمريكية، و بذلك فهم مدينون لتطور الأبحاث في أمريكا الذي لولاه لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه.

لعل الخطأ الأفدح من وجهة نظر التحليل الاقتصادي التهويل في شان انعكاس الأزمة المالية العالمية الأخيرة على أمريكا. صحيح إن شرارة الأزمة قد انطلقت من هناك، مع انفجار فقاعة القطاع العقاري، و كانت النتيجة أن تعرضت بعض المؤسسات المالية إلى الإفلاس. لكن غاب عن المسوقين لهذه الآراء أن إفلاس المؤسسات الفاشلة يمثل الية هامة من آليات اقتصاد السوق، إذ غالبا ما تكون النتيجة إنشاء مؤسسات جديدة أفضل. كما من المهم التنويه بان حصول الكساد الكبير عام 1929 لم يمنع أمريكا من إزاحة بريطانيا و تبوء مركز القوة الاقتصادية الأولى في العالم، و لن يختلف الأمر كثيرا مع الأزمة الأخيرة.

بل الأرجح أن تساعد هذه الأزمة في بناء قطاع مصرفي و مالي أمريكي قوي في المستقبل، تماما كما استفادت دول مثل السويد و تركيا من أزمات البنوك العاملة لديها في التسعينات من القرن الماضي، مما اضطرها لإصلاح البنوك في تلك الفترة و جنبها الضرر الذي لحق الدول الأخرى خلال الأزمة الأخيرة.

ربما التوسع في الإنفاق العسكري هو العامل الوحيد الذي قد يهدد الريادة الأمريكية للعالم في المستقبل. لكن الدولة التي لم يسبق لها و أن كانت امبريالية في تاريخها السابق، سوف يكون بإمكانها السيطرة على هذا الإنفاق، و ذلك بطلب حلفائها المشاركة بقسط اكبر في نفقات الحلف الأطلسي و خروجها الحالي من العراق و المعلن من أفغانستان في 2014.

بناء على ما سبق و رغم صعوبة التنبؤ بمستقبل دولة عظمى يبدو الاحتمال الأرجح هو أن يبقى القرن الحالي أمريكيا، تماما كما كان القرن السابق أمريكيا بامتياز بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. و على النخب المثقفة و صناع القرار في العالم العربي مراجعة أنفسهم بناء على هذه الحقيقة.

كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي
[email protected]