قبل أن يدفن الطاغية (تشاوسسكو) بأربعة أيام كان في زيارة ملالي طهران فاستقبل بحفاوة وعناق وقهوة دهاق، مع هدية من السجاد العجمي الفاخر العتيق تحت أقدامه السنية، ويومها سئل عن أحداث أوربا الشرقية والعاصفة النارية تلتهم العروش الكرتونية، وينهار جدار برلين، وتشرق شمس براغ، وتزول الشيوعية مثل آيس كريم في صيف قائظ؟ وأن شقيا من (تيمي شوارا) يعلن العصيان المدني فماذا يتوقع وبماذا يعلق؟
أجاب بابتسامة عريضة سلبت من وجه الشرطي التونسي يوم 13 يناير 2011 م وقد زاد عمره نصف قرن؟ وهو يعترف أمام الجمهور أي شمس الواعظين وقرة المتقين، كطفل مشاغب في وجيه أبيه؟ أنه لن يحكم تونس بعد اليوم فقد شبع من الحكم بعد ربع قرن؟
قال المجرم شاوسسكو يومها مطوقا بحرس البازديج والبازدران الإيراني: أنتم لاتعرفون رومانيا وأنا أعذركم في جهلكم؟ أما أنا فأعرف طبيعة الولاء في دم شعبي، وتأكدوا تماما أنه حين تنقلب أشجار الصفصاف إلى كمثرى فيمكن أن تتغير الأوضاع في رومانيا؟
بعد أربعة أيام كان الشقي يحاكم هو وزوجته إيلينا مثل حية برأسين ويعدمان ولا يعثر لهما على قبر وأثر؟
ويبدو أن هذا المصير هو في انتظار عصابة بن علي؟ وليس هو الوحيد في السفاري العربية التي تسرح فيها الضواري مع ديناصورات بوش اللاحمة؟
مع ذلك فالتاريخ يحمل المفاجأت؟ فقد ينجح في وجه العاصفة؟ ثم يبدأ بعدها سلخ فروات المتظاهرين على طريقة الهنود الحمر؟ والبعثيين العبثيين في تدمر وسجن المزة، وقصر النهاية في بغداد حيث اندثر المصدوم المشنوق، عبرة للمتقين وآية للمتوسمين وعظة للغافلين!!
الحديث لم يبدأ بعد والمشكلة أكبر من بن علي وبن شقي؟
مشكلة العالم العربي والسناريوهات التي رأيناها كانت دوما من فصلين: انقلابيين مردة ومجرمين حثالة ينقضون على ظهور الدبابات فيغتصبوا الأمة في جنح الظلام مثل قصص العيارين والحشاشين بالطبنجة والغدارة؟ مقابل من أراد تخليص الأمة ولكن بنفس الإسلوب وسوء الطوية؟
هذه الروح السمية المسمومة مارسها الجميع من قوميين من عبدة العجل الناصري، وإخوانيين في سوريا، وحزب تحرير في الأردن، وبعثيين انقلابيين عبثيين في العراق وسوريا، بل وطريقة الحرب الأهلية كما رأينا في لبنان بين حزب الله وحزب الشيطان فالكل من نفس الملة والثقافة والطبنجة الغدارة والفشكة والبارودة، أو الحصان العسكري في السودان مع جماعة الترابي التي دفعت في حرب الجنوب إلى المذبحة مائة ألف من خيرة الشباب تحت دعوى الجهاد حتى انفطر السودان الانفطار العظيم والرئيس يلوح بالعكازة بابتهاج وفرح عله ينجو من المحكمة الدولية وحبسها؟
كل الطرق كما يقول المثل تقود لورم روما وكل العمل العسكري ـ الذي هو بالأصل بتخطيط أمريكي مباشر وبمكر خفي ـ كله قاد إلى وأد الأمة وأدا فاستحالت إلى تراب ومدر..
الأسلوب الوحيد الذي لايعرفه العقل العربي هو العصيان المدني وهي المسألة التي بحثتها أول سورة من القرآن وهي تناقش مسألة الطغيان؟
بأن الطاغية لايقتل بل تعالج حالة الطغيان برفض الطاعة؛ بكلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان: كلا .. لاتطعه .. واسجد واقترب.. فلا قربة من الله بغير سجود.. ولا سجود إلا بعد رفض طاعة الطاغية.. ومع العصيان الروحي يولد الإنسان محررا من علاقات القوة مسلما موحدا لله..
وما عدا ذلك فهو وثني ولو صلى وصام وحج فكلها طقوس، وحين جاء الإسلام جاء بالتوحيد، ثم فرض الطقوس لتنشيط التوحيدباستمرار، مثل شحن بطارية السيارة بالدينمو، الذي بدوره يملأ بحزام المروحة، ولكن حين يدور الحزام في الفراغ؟ ما امتلأ الدينمو، ولا شحنت البطارية، وبقيت السيارة بدون قدرة وعزم وحركة؟
وهو حال المسلمين اليوم يدورون في طقوس فارغة مفرغة من المعنى؟؟
إنها فرصة الشعب التونسي في الولادة الجديدة بالاستمرار في العصيان المدني، لحين رحيل الطاغية وعصابته، وبناء مجتمع إنساني مفتوح تشارك فيه كل القوى السياسية في صناعة المستقبل؟
وعليهم أن يعلموا علم اليقين أن جراثيم الموساد وفيروسات المخابرات الأمريكية والعربية تحاول تشويه هذه الثورة الشعبية العفوية، وهناك من هو مستعد أن يدفع مايكلف من أجل إجهاضها، أو دفع جنرال شقي جديد إلى الواجهة، لإن الأسماء قد تتغير من شمس الواعظين إلى درة المتقين في جرة قلم، فيضاف إلى القاموس كلمة ويخسر الشعب التونسي مستقبله لأربعين سنة أخرى وشلال من الدم، كما حصل مع السوريين المقرودين، فهرب من البلد خمسة ملايين من النازحين ليس من هجوم صهيوني بل من نازي بعثي؟
من المهم جدا الانبتاه إلى مظاهر الشغب والسرقة والحرق والتدمير وأن تبقى الثورة سلميا تقول سلاما سلاما .. وتفعل مافعلته الثورة الإيرانية والأوكرانية يوما حين يتقدم المتظاهر بوردة فيضعها في فوهة البارودة ويقول أيها المسلم لاتقتل أخاك؟
من المهم جدا أن ينتبه الناس إلى التخلص من الكراهية وأن المشكلة ليست في الحكام؟ فهم أفضل ثوب خيط عند أحسن خياط لشعوب مسرجة مثل البغال المطهمة؟ ومن يريد أن يعرف حاكمه فلينظر في المرآة جيدا فيكتشف عنده دمامل الوجه وكبر الأنف؟
ولنعلم علم اليقين أن البعوض يفرخ في المستنقعات، وأن ملوك الصبيان الجدد من الجملوكيات في عالم العربان الغربان هي تحصيل حاصل، وأن النسر الأمريكي حط على جثة في نينوى..
فهذه قوانين وجودية...
وأن السؤال ليس لماذا تأتي أمريكا للمنطقة؟ بل لماذا يجب أن تأتي؟ ودمامل وقباحات على الوجه والقفا من أمثال بن علي وبن شقي لو أرسلت إلى مصحات بادن بادن في ألمانيا، وجرونوبل في فرنسا وتورنتو في كندا، لتحول بن شقي إلى بن صالح، وأصبح الديكتاتور بحجم إله بشرا سويا؟؟
فهذه قوانين وجودية يجب استيعابها، ومنه وعليه أن لانكره حكامنا فهم تفريخ مستنقعاتنا المؤذية..
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لايخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون؟

ماهو الطريق إذن للخلاص من الطاغية والطغيان؟؟
في 29 سبتمبر من عام 2000م مات الرئيس الكندي الأسبق (بيير ايليوت ترودو) في خريف العمر في منزله عن 81 سنة بدون اغتيال وانقلاب أو نفي.
مات مواطناً عادياً في بيته خارج الحكم بعد أن حكم كندا ثلاث مرات ولكنه اعتزل الحكم والسياسة وأهم ما أنجز مرسوم (الحريات والحقوق) ووضع كندا على الخارطة العالمية كبلد مسالم في استقلال عن أمريكا.
إن تاريخ كندا كان معظمه سلمياً ولم يكن انفصالها عن بريطانيا دموياً على غرار الثورة الأمريكية، وهو نموذج للتغيير جدير بالتأمل. واجتمع في جنازته النقيض بمن فيهم أشد خصوم أمريكا كاسترو.
ومازال الناس يزورون منزله حتى اليوم بحب وتقدير وبدون خوف من الاستخبارات.
إنها مشاهد رائعة من كندا تشبه ألوان أوراق شجرة القيقب المضرجة بالاحمرار المتساقطة مع خريف كندا الرائع.
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.
أما المنظر في غابة العروبة حيث السفاري تسرح فيها الضواري فالقصة مختلفة، فالأمة العربية تسكن اليوم العناية المشددة التاريخية، تحت إشراف أسوأ الأطباء وأقلهم خبرة وأضعفهم اختصاصاً، نزفت بما فيه الكفاية، وهي الآن في حالة قصور اجتماعي وهذيان على صورة صراخ الجماهير الهستيري في تمجيد الأصنام.
لقد كانت الأمور سيئة بما فيها الكفاية من الانفكاك عن صيروة التاريخ وأحداث القرن ولكن التطور المهين خلال نصف قرن الفائت يجعلنا نتساءل إلى أين ستمضي الرحلة؟
وهل هناك ثمة قاع ترسو عليه سفينتنا الغارقة في عمق المحيط؟ وهل انتهينا من قدر الهبوط أم مازال أمامنا فصول أشد بؤساً؟
لا أحد يعلم.
يؤرخ الفيلسوف (عبد الرحمن البدوي) في كتابه (سيرة حياتي) التطور المأساوي في مصر ـ وهو كتاب جدير بالاطلاع ـ في مسلسل أحداث القرن شاهداً على القرن، وهو الذي أنتج 120 كتاباً فلسفياً في حياة علمية حافلة بالإنتاج وإتقان اللغات والاطلاع على ما أنتجه الفكر الحديث، وهو يصلح للتطبيق على أماكن ليست بالقليلة في العالم العربي بسبب المرض الثقافي المشترك في (النوعية) مع الاختلاف في (الدرجة)، كما في الحمى (التيفية) التي قد تصيب أحدهم بالترفع الحروري والإنهاك، ولكنها قد تضرب عند مريض آخر عضلة القلب فلا أحد يستطيع التكهن بمخطط رحلة المرض طالما تمكن من مفاصل المريض.
وكذلك هي مصائر بلدان عربية منوعة بين العجز أو الكارثة الاجتماعية أو الانفجار بعد طول احتقان؟ لأمم تعيش خارج التاريخ كمريض مصاب بأفظع حمى.
سنة الله في خلقه وخسر هنالك المبطلون.
يصف (البدوي) هذا التطور المرضي على نحو مفزع نقتطف منها حزمة بشيء من الاختصار والتصرف وهي تصلح على النموذج التونسي بجدارة؟
( كانت الحرية نعمة .. وإذا بها حكرا جديدا على فرد تحيط به عصابة. كانت الكرامة من أعز ما يعتز به.. فصارت هدفا لكل اضطهاد ومصدراً لكل حرمان وشقاء. كان الأمن على النفس والأموال موفوراً لكل شخص فصار الخوف على كليهما يقض مضجع كل فرد وأسرة. كان النفاق مقصوراً على فئة من الوصوليين وعديمي الضمائر فأضحى خصلة لشعب بأسره يتنافس الجميع في ممارستها ويتباهى بالتفوق فيها. وكان التفريط في أي حق من الحقوق الوطنية خيانة تنهار بسببها الحكومات وإذا بالتخلي عن أكبر الحقوق إنجازاً يتباهى به الحكام. وكانت الهزيمة سنة 1948 كارثة تزعزعت بسببها الثقة في الحكام وإذا بالهزيمة الساحقة الماحقة عام 1967 تحتشد لها جماهير للهتاف بحياة من تسببوا في الهزيمة. وكان النقص في السلع أمراً نادر الوقوع فصار القاعدة. وكانت العلاقات مع البلاد العربية والإسلامية تتسم بالمودة وتبادل المنافع فصارت القطيعة والعداوة هي الصفات السائدة. وكانت حقوق الإنسان مكفولة بالدستور والقوانين فإذا بها تصبح تعطفاً متعالياً من الحاكم على المحكومين.
وكان الاقتصاد يقوم على أسس راسخة وأرقام صادقة وإذا به يصبح أرقاماً بهلوانية يتلاعب بها وزراء لا علم عندهم ولا ضمير يقدمون موازنات زائفة مما أدى بالاقتصاد إلى الإفلاس وتكاثر الديون وانهيار العملة انهياراً متواصلاً.
وكان الإسكان ميسورا في كل مكان وإذا بالملايين لا يجدون مساكن لهم. وكان لكل مواطن الحق في أن يغادر وطنه طلباً للرزق أو للعلم وإذا بالوطن يتحول إلى سجن كبير. وكانت أدوات الثقافة تتدفق في حرية تامة وإذا بها تمنع تدريجياً حتى فقدت الاتصال بمصادر الفكر العالمي)
وقد يتساءل المرء وهل كانت الأحوال قبل هذا التطور المريع مع منتصف القرن العشرين رائعة؟
والجواب أن الأمور نسبية وقد استدركها (البدوي) فقال ولكن الأمر كما قال الشاعر:
رب يوم بكيت منه فلما صرت إلى غيره بكيت عليه
وهذا المرض السياسي قديم على كل حال نشأ مع الانقلاب الأموي ومصادرة الحكم الراشدي وتابع رحلته الإمراضية عبر القرون وكل من حاول استعادة الرشد من بعد لجأ إلى الغي أي نفس الأداة المروانية الجاهلية: السيف. فالسيف أصدق أنباء من الكتب؟؟
هذا مافعله العباسيون ومن بعدهم قرونا كثيرا فلم ترجع الحياة الراشدية واستمر (السيف) فوق (القانون) فحيث شق السيف طريقه لحقه الكتاب كما في تعبير (ابن تيمية) فبارك وصدق وختم على ما فعله.
هكذا كانت علاقة (القوة بالمشروعية) في تاريخنا.
ومازال السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب كما وصف شاعرنا قديماً الوضع بصدق وقناعة.
واحتضن اللاوعي الشعبي هذه الجرثومة الثقافية أن (البطل) من يأخذ حقه بيده في مصادرة كاملة لكل الإنجاز الإنساني في معنى الدولة والقانون.
ولكن كل هذه (المناحة) والندب لاتنفع وعلينا مواجهة الكارثة بالحكمة والبحث عن المخرج كما في أزمات سقوط الطائرات؟
لقد اختصر (عبد الرحمن الكواكبي) الوصفة بثلاث جمل مثل قوانين الرياضيات في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) في فصل:(مبحث السعي في رفع الاستبداد):
قال الرجل أولا (الشعور بالحاجة الى التغيير) ويتفق بهذا مع الفيلسوف (ايمانويل كانت):
(1) (الأمة التي لاتشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لاتستحق الحرية.
و (يجب أن يتم التغيير سلمياً وبالتدريج) ويتفق بهذا مع قانون الأنبياء في التغيير الاجتماعي أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا مابأنفسهم، وليس بقتل الحكام أو الانقلابات العسكرية في الظلام.
(2) (الاستبداد لايقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج).
وثالثاً (لابد من تصور البديل).
(3) (يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد)
ويتفق بهذا مع (ديكارت) الذي يرى في كتابه (المقال على المنهج) أنه يجب عدم هدم البيوت القديمة مهما كانت سيئة فلا يفعل هذا مهندس عاقل ويضع أصحابه تحت المطر والريح بل لابد من تهيئة البيت الجديد فإذا انتقل إليه لم يرجع إلى القديم قط.
ومن الملفت للنظر أن القوانين الثلاث التي وضعها الكواكبي قبل أكثر من قرن من الآن (1902)م للتخلص من الاستبداد تفتح الوعي على طريقة جديدة في التفكير بعد أن جرب العالم العربي وصفة الانقلابات فلم يزدد المرض إلا نكساً و وخامة، وتدهورت الأحوال بدون توقف منذ نصف قرن وبتسارع في علاقة جدلية موجعة بين (المرض) و(الاختلاط)، ونحن نعلم أن المريض في العناية المشددة عندما يستمر في النزف لايقف عند نقل الدم ولكنه يصل إلى القصور الكلوي.
والكواكبي الحلبي السوري الذي صاغ (قوانين التغيير) على نحو مبللور قبل أكثر من قرن لم يترك أثراً في الثقافة الجماهيرية وانتكست الأوضاع الى ماهو أسوأ مع كل الوعي الاجتماعي الذي كان تحلى به الرجل، وهو بوحي أنه كان على اتصال بغذاء فكري (غير تقليدي) حتى استطاع صياغة هذه القوانين.
ويبدو من كلماته اتصاله بالفكر الغربي الحديث مع أيمان عميق بقيم الإسلام وانتباه حساس وإدراك لطبيعة الفروق الثقافية بين الشرق والغرب بل حتى خصوصية كل مجتمع غربي مثل إدراكه للفروق الدقيقة بين المجتمع الألماني والفرنسي (فالجرماني جاف الطبع وهو يحب العلم من أجل المال، واللاتيني مطبوع على العجب والطيش ويرى العقل في الإطلاق والحياة في خلع الحياء) مما يدل على احتكاكه المباشر بهذه المجتمعات.
إن الفكر الذي خلفه لنا آباؤنا أعجز من أن يفرز مثل هذه الرحيق لأنه لم يقطف من زهور الحرية ولم يعد فيه ما يحرك إلى التغيير، وانفصل عن حركة التاريخ.
يقول (مالك بن نبي) إن أكرم مكان لجثث الموتى هو إيداعها المقابر كذلك يجب أن يكون مصير (الأفكار الميتة) من تركة الآباء التي توقفت فيها حركة الصيرورة وماتت فمكانها مقبرة التاريخ، بكل احترام كقيمة في الذاكرة وليس كوجود في الحياة.
إن الفكر التقليدي يحمل إشكالية عميقة انتبه لها الفيلسوف (محمد إقبال) فأشار إلى أن الكثير من تراثنا كتب في ظروف مشبوهة ويبقى القرآن هو الكتاب الوحيد الذي حفظ بدون عبث من تغيير رسمه، ولكنه مع هذا لم يسلم من ثلاث:
توظيفه للسلطان. وكتم حقائقه. وأن يشترى به ثمناً قليلاً.
وهذا يفتح الطريق إلى الاستنفار لمحاولة إضاءته على نحو عصري بتطويع العلوم الحديثة لفهم حقائقه. كذلك نفهم لماذا استنفر علماؤنا أنفسهم سابقاً لغربلة الحديث فينتقي البخاري من نصف مليون حديث ألفين ويزيد، ويعلِّم ابن حنبل ابنه خمسة آلاف حديث شائع ليفاجئه لاحقاً أنها مكذوبة فيتعجب فيقول له كي تعرف أنها موضوعة فتحترز منها. وأما بقية التراث فكتب كله في ظل السلاطين وفي أجواء سياسية تقوم على الغدر وقنص السلطة الدموي المحموم.
كان النص يلعن فرعون ولكن فرعون وجنوده كانوا في القصر يحرسهم جيش من المرتزقة في دولة ودعت الخلافة وتحولت الى نموذج بيزنطي.
أمامنا اليوم كما نرى عمليتان في الجراحة الفكرية:
الأولى: في غربلة التراث بالحفر المعرفي لاكتشاف ذاتنا الحقيقية بدون مكياج وقناع .
والثانية الاتصال بالعصر لنعرف إضافات المعرفة، وكما يقول (مالك بن بني) كل من يدخل العصر ولا يدرك إضافات المعرفة الإنسانية لن ينجو من سخرية التاريخ.
التاريخ سيحسم قدر تونس في شتاء 2011م فماذا ينتظز العرب هناك هل هو بوابة إلى جحيم الفوضى العراقية الصومالية؟ أم جنرال شقي جديد مثل الأسد بعد صلاح جديد فهما اليوم عند ربهما يختصمان؟ أم شمس مشرقة على كل العرب تحمل اسم أبو القاسم الشابي وابن خلدون..