أتمنى كتونسيين كثر، أن يكون لدينا دليل تونسي أو نظرية تؤطر عملية تسمية الأنهج والشوارع و الساحات في مدننا و بلداتنا وقرانا، مما سيساعد مجالسنا البلدية على التكامل في هذا الشأن مع ما تقتضيه مصالحنا الوطنية وهويتنا الحضارية. إن الأمر قد يبدو في ظاهره مجرد تمييز للطرقات بعضها عن بعض، لكنه في باطنه تكريم لشخصيات عامة وتوجيه للناشئة و بيان لمستويات تحضر ورقي وخدمة للذاكرة الوطنية وأشياء أخرى كثيرة.
كنت قبل أسابيع مارا مع صديق في أحد شوارع quot;ميتيالفيلquot; ضاحية عاصمتنا العريقة، فإذا به ينتبه إلى إسم الشارع quot;محمد علي الطاهرquot;. سألني بعفوية إن كنت أعرف هذا الرجل، الذي تبدو نغمته quot;شرقيةquot;، فقد اعتصر ذاكرته فلم تسعفه بشيء، و لم يعثر في ما يعرف من رجال الحركة الوطنية أو شخصياتنا التونسية الشهيرة ما يجلي حيرته أو يوفر عذرا وجيها لبلدية تونس لديه، خصوصا و أنه رجل كثير النقد شديد الحساسية، لا يعجبه العجب ولا الصوم في رجب كما يقول المثل العامي.
قلت لا أعرف الرجل شخصيا فقد توفي في بيروت سنة 1974، أي عندما كان لي من العمر خمسة سنين، لكنني تعرفت بالصدفة المحضة والحظ الطيب على إبنه quot;الحسنquot; عن طريق البريد الالكتروني، و هو اليوم رجل ربما أشرف على السبعين، و جرت بيننا اتصالات طريفة تستحق الرواية، عن والده quot;أبو الحسن محمد علي الطاهرquot;، الذي مثل برأيي ثاني أهم شخصية عربية مشرقية بعد الأمير شكيب أرسلان، ناصرت القضية الوطنية التونسية أيام الاحتلال، وساعدت الوطنيين التونسيين على التعريف بمحنة بلادهم لدى الرأي العام في مصر و المشرق، و أحمد الله أن تونس لم تتنكر يوما لأصدقائها، و ردت جميل أبو الحسن ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، مخلدة إسمه في شارع من شوارع كبرى حواضرها.
أخبرني السيد الحسن إبن الراحل محمد علي الطاهر في مراسلة حديثة، أنه ما يزال يحتفظ لديه بشيئين يعتبرهما الأعز لديه من ريحة والده العطرة، أولهما ساعة أهدتها له الأميرة مي إبنة الأمير شكيب أرسلان و زوجة الزعيم الوطني اللبناني كمال جنبلاط ووالدة إبنه وليد القائد السياسي الحالي لطائفة الدروز اللبنانية، وثانيهما جنيه ذهبي أهداه إياه الزعيم الحبيب بورقيبة أواخر الأربعينيات عندما زارهم في بيت العائلة بضاحية شبرا في القاهرة مهنئا بالعيد. و اعتقد شخصيا أن هذا الجنيه واحد من ثلاثة آلاف جنيه ذهبية، سلمها لبورقيبة الملك عبد العزيز بن سعود، من قبيل الدعم للحزب الحر الدستوري و نصرة حركة التحرر التونسية.
و لعلاقة محمد علي الطاهر، بالزعيم بورقيبة قصة جميلة و مشوقة، تصلح للعبرة والتأمل والاستفادة من دروس التاريخ وتقلبات الزمان، فقد كان أبو الحسن كاتبا وصحفيا وناشطا سياسيا فلسطينيا ولد في نابلس سنة 1896 و تربى في يافا قبل الاحتلال الانجليزي والاستيطان الصهيوني لفلسطين، وهاجر إلى مصر سنة 1912، و بدأ في القاهرة نشاطا صحفيا و عربيا لن يتوقف إلا برحيل الرجل عن هذه الفانية. وقد اشتهر أبو الحسن بسعة أفقه وانفتاحه على حركات التحرر والمقاومة في العالم العربي والإسلامي، و من بينها الحركة الوطنية التونسية، في سائر أطوارها، فقد استهل دعمه حليفا للحزب الحر الدستوري القديم، ثم لم يجد غضاضة أبدا في الارتباط بجيل الشباب المنشقين منذ سنة 1934 في حزب دستوري جديد.
و قد علم أبو الحسن من مصادره أن الزعيم الحبيب بورقيبة قد وصل إلى القاهرة بعد رحلة فرار من المستعمر الفرنسي، ابتدأها سنة 1945 من جزيرة قرقنة، مرورا بالأراضي الليبية إلى بلدة السلوم الحدودية وانتهاء بالحاضرة المصرية، التي لم يكن يعرف فيها أحدا، ولا أحد يعرفه تقريبا، وذلك لاتجاه النخب والصحف والساسة بأنظارهم نحو قضايا العرب المشرقية.
لم يدخر محمد علي الطاهر جهدا في البحث عن الزعيم التونسي، ففتش عنه في كافة فنادق الدرجة الأولى والثانية القاهرية، دون نتيجة تذكر، ليقرر بعدها الانتقال إلى الفنادق الشعبية (أي الوكايل في لهجتنا العامية)، فدخل إلى quot;لوكاندة مصرquot; في ضاحية العتبة الشعبية، سائلا عامل الفندق في الاستقبال عن الزعيم بورقيبة، فأجابه أن الزعماء لا ينزلون في quot;لوكندتهم التعبانةquot;، و إذا ببورقيبة الذي تصادف وجوده بالقرب من المكان في حينها، يصرخ بإسمه quot; لا بد أنك محمد علي الطاهرquot;، وأجابه الرجل quot;لا بد أنك الحبيب بورقيبةquot;، وتعانق الرجلان تاركين في دهشة العامل المسكين، إلى مكان آخر لاحتساء القهوة و الحديث عن شجون السياسة وأحزان الأوطان المحتلة.
بعد اللقاء الطريف، نصح محمد علي الطاهر بورقيبة بأن ينتقل إلى مكان أكثر لياقة بمكانة الزعيم، لكن ضيق ذات اليد لم تكن تسمح لمن سيصبح بعد ذلك أول رئيس للجمهورية التونسية، بهذه الرفاهية، غير أن الصديق المخلص تدبر الأمر مع مدير فندق quot;سافويquot; أحد أهم فنادق القاهرة في ذلك الوقت، على منح بورقيبة غرفة في آخر دور، كانت مخصصة لأحد العملة، و كان الهدف من ذلك أن تمنحه هذه الإقامة فرصة لقاء أهل النخبة السياسية والإعلامية في بهو وصالات الفندق الفخمة، دون أن يكون لدى هؤلاء خبر بطبيعة الحال عن أن الزعيم التونسي كان من أول سكان السطوح في المحروسة.
استمر محمد علي الطاهر بعد ذلك في الكتابة في صحيفته - التي لا تغيب عنها الشمس على غرار الامبراطورية البريطانيةquot; مثلما كان يقال في ذلك الحين- عن القضية التونسية و عن حق التونسيين في بناء دولتهم المستقلة، ولم يكن يتصور أن صديقه سيصبح رئيس أول حكومة في هذه الدولة، كما لم يتصور أيضا أن وفاءه سيقابله الوفاء حيث تقرر لاحقا منحه الأوسمة التونسية العليا في مناسبتين، كما زاره الزعيم بورقيبة في شقته في بيروت منتصف الستينيات عقب جولته المشرقية، و أرسل موفدا رسميا عنه في تشييع جنازته و مواساة عائلته في منتصف السبعينيات.
رحم الله أبا الحسن رحمة واسعة، وأعان التونسيين على أن يستمروا على سنتهم من الأوفياء لزعمائهم وأصدقائهم و سائر المصلحين، فتلك شيمة من شيم الأمم العظيمة.