على صعيد المصطلح، استخدمت كلمات عديدة لتوصيف الوجود العربي في أوربا (وعموم الغرب)، كلفظ quot;جاليةquot; في إشارة إلى أن الوجود مؤقت، وأن حلم المهاجر العربي الدائم هو العودة إلى بلده الأم بعد تحقيق أهدافه من الهجرة، ولفظ quot;أقليةquot; الذي أشار إلى حالة تحول بدأت تعيشها الجاليات العربية ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي، وتأكدت أكثر مع بداية التسعينيات، من وضع الرهان على العودة إلى رهان quot;المواطنةquot;، أي حسم الوجود في اتجاه أن يكون العرب والمسلمون مواطنين على قدم المساواة مع المواطنين الأصليين، لكن بخلفية ثقافية و دينية متمايزة.
و تقديري أن أفضل توصيف للوجود العربي في أوربا، هو لفظ quot; الشتاتquot; (Diaspora)، الذي يتضمن معاني أقرب إلى تجسيد واقع هذا الوجود على كافة الأصعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فعرب أوربا شتات في جميع المجالات، و أولها أنهم لم يعودوا جالية أو جاليات، يعملون بجد من أجل إدارك أهداف محددة والعودة إلى أوطانهم الأصلية، كما لم يبلغوا درجة الأقلية أو الاقليات لأنهم لم يحسموا بعد مسألة الانتماء القومي للأوطان الجديدة و ليس ثمة ما يشير إلى اتجاهم إلى إدارك هدف المواطنة الحقيقية مع المحافظة على تميزهم الثقافي والاجتماعي، على غرار أقليات أخرى سابقة كالاقلية اليهودية أو الهندوسية أو الصينية أو غيرها.
وفيما عدا تنظيم quot;الإخوان المسلمينquot; ndash; سواء اختلفنا أو اتفقنا معه- الذي يملك مشروعا واضحا تجاه الوجود العربي في أوربا، المجسد في ما يعرف بquot;اتحاد المنظمات الإسلاميةquot;، والذي يمنح الأولوية في المحافظة على هذا الوجود للدين الإسلامي، باعتباره الوحيد برأيهم القادر على التعايش مع اللغات القومية الأوربية السائدة والتكيف مع متطلبات الدولة العلمانية وفقا للحق في ممارسة العقائد والشعائر الدينية، فإن بقية الأطراف المعنية بهذا الوجود، سواء أكانت رسمية ممثلة في الدول والحكومات و الممثليات الديبلوماسية العربية، أو غير رسمية تعني منظمات أو تيارات فكرية وسياسية، لا تملك أي خطة أو رؤية أو تصور مستقبلي ملموس لما يجب أن تكون عليه الحالة العربية في أوربا، راهنا وقادما.
بكلمات أكثر مباشرة، فإن الإخوان المسلمين على وجه خاص والتيارات الدينية الإسلامية عموما، وحدها من يملك قاعدة بيانات و بنية تأثير تحتية وشبكة مراكز وهيئات ومنظمات ومساجد ومدارس وخيريات، تنتظم في مجملها لصالح مشروع مستقبلي يتطلع إلى المحافظة على الوجود العربي كجزء من وجود إسلامي أعم، يمكن أن يجمع بين مواطنة أوربية قانونية وانتماء نفسي وفكري و سياسي إسلامي. أما بقية الأطراف المعنية، أي الدول العربية والتيارات العلمانية العربية، فلا أثر عملي محسوس لها على الأرض، وكل ما يمكن أن يشار إليه محاولات محدودة ومتناثرة، ومبادرات شخصية متواضعة، وخطاب منقسم ومضطرب، والأخطر قدري يتصور أن حركة التاريخ أقوى من أن يجري التصدي لها.
لقد سنحت لي فرصة للقاء الأمين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسى، و قد أبدى في حينها اهتماما بالاطلاع مباشرة على الحالة العربية في بعض الدول الأوربية، والاستماع إلى وجهة نظر نشطاء الوجود العربي، وربما محاولة صياغة معالم خطة وقاعدة بيانات من أجل اكتساب نوع من التأثير قد يفسح المجال لإمكانية حديث عن مثل هذا الوجود بعد عقدين أو ثلاثة من الآن، لكن جهود الجامعة العربية ستصطدم بمعوقات العمل العربي المشترك، المسؤولة عن انتاج العجز على صعيد العالم العربي نفسه، فما بالك خارجه.
أما على صعيد الحكومات العربية، والتي تملك مئات الممثليات الديبلوماسية والقنصلية في مختلف الدول الأوربية، فإن المتحكم في حركتها إزاء الوجود العربي هو المعطى القطري، الذي يجعلها تتعامل مع العرب كمصريين وعراقيين ومغاربة وتونسيين وجزائريين..إلخ، على الرغم من أن التحديات المطروحة على هؤلاء هي تحديات ثقافية وسياسية واجتماعية جامعة، تقتضي آليات مواجهة من نفس النوعية.
خلاصة القول والعمل، أن عرب أوربا اليوم، الذين يشعرون أنهم أوربيون من أصل عربي، لن يكون لهم وجود خلال عقدين أو ثلاثة عقود، وغاية ما سيكون عليه أبناؤهم في المستقبل هو إما أن يكونوا أوربيين مسلمين إذا تمسكوا طبعا بهويتهم الدينية، أو أوربيين فحسب، يشيرون إلى أن آاباءهم أو أجدادهم أو آباء أجدادهم قد هاجروا من مصر أو العراق أو المغرب..كل هذا باعتبار أن توجهات أوربا الموحدة الحالية هي غلق الأبواب ما أمكن أمام الهجرة العربية إليها، وهو ما يعني أن الوجود العربي لن يرفد ديمغرافيا بأعضاء جدد ناضجي الهوية كما كان عليه الحال طيلة النصف الثاني من القرن العشرين و العقدين الأولين لهذا القرن.