لا تشكل استقالة مذيعات الجزيرة الخمس إلا دليلا آخر على فشل النموذج الإسلامي في إدارة هذه المؤسسة الإعلامية الاستثنائية في العالم العربي، ودليلا آخر على صحة ما ذهبت إليه في أول مقالاتي النقدية quot; قناة الجزيرة في ظل حكم الإخوانquot;، الذي نشرته quot;إيلافquot; يوم 29 يوليو 2006، والذي قدرت فيه أن الإسلاميين سيعملون تدريجيا على تجريد المؤسسة من أي تنوع حقيقي داخلها، سواء تعلق الأمر بالخط التحريري أو طاقم العمل، وأن أفقهم الفكري والسياسي الذي يصور لهم امتلاكهم للحقيقة، سيشجعهم باستمرار على إقصاء من سيصنف من قبلهم خصما، وسيزين لهم شيطانهم ضرورة تحويل الشاشة من وسيلة إعلام منفتحة على كافة الايديولوجيات إلى وسيلة بروباغندا الإيديولوجية تتستر وراء quot;برواز إعلاميquot; خادع.
قبل استقالة المذيعات الخمس من الجزيرة بسبب ما قيل أنه quot;نوع من التحرش الجنسيquot; أو quot;الاستفزاز غير الأخلاقي لهنquot;، غادر المحطة إعلاميون ساهموا في وضع البنى التحتية للقناة و اشتركوا في تحقيق نجاحها الجماهيري خلال سنواتها الأولى، من أمثال حافظ الميرازي وأكرم خزام، وصرح هؤلاء بعد استقالتهم أو إقالتهم أن لتركهم مواقعهم علاقة بتعزيز الإخوان لمواقعهم في المؤسسة جراء تعبئة منهجية القصد منها الهيمنة العددية على طاقم العمل و تحويل quot;غير الإسلاميينquot; إلى قلة منبوذة أو مقهورة مطالبة بالاحتشام في لباسها.
وقبل أو بعد مغادرة أكرم خزام، غادر آخرون أقل شهرة لكنهم لا يقلون قدرة و كفاءة، من قبيل الصديقين خالد الحروب ومكي هلال، و للجميع ملاحظات متشابهة، أن المهنية لم تعد هي الغالب، وأن quot;الولاءquot; أصبح مقدما على quot;الكفاءةquot;، و أن الفتح quot;القطريquot; يجب أن يتستثمر على آخره حتى آخر قطرة نفط أو دفقة غاز ممكنة.
و أعرف شخصيا عشرات الأشخاص من أعضاء حركة إسلامية عربية، ضربت عليهم الذلة والمسكنة، أصبحوا في مهاجرهم بين عشية وضحاها إعلاميين وصحفيين، واستدعوا في هبة جماعية لتعزيز طاقم الجزيرة، وحماية السيد المدير العام من أعدائه وحساده والمتآمرين على عرشه الإعلامي، خصوصا وأن الرجل ما يزال يحمل في قلبه بعض المنة والجميل لهذه الحركة، عندما ساهمت في تأهيله القيادي لما كان طالبا في أربد أو مهاجرا إلى السودان.
و قد أخبرني صديق كان يشغل خطة مدير لإحدى قنوات الشبكة، وقد ساهم الرجل بفعالية في تأسيسها وإطلاقها و قدر كبير من احترام المشاهدين لها، أنه طرد من موقعه دون سابق انذار وأنه يقدر أن السبب في طرده هو تمكنه من مضاعفة ميزانية القناة المذكورة ثلاث مرات، مما جعل كعكة الإنتاج مغرية للطامعين، ولا سبب في بقائه مشرفا على تقسيمها، وquot;جحا أولى بلحم ثورهquot; كما يقال.
كما وقفت أيضا على أن بعض شباب الإخوان، ممن عرفتهم متدربين في أحد المواقع الإخبارية الإسلامية، قد أضحوا بين عشية وضحاها ملاك شركات إنتاج إعلامي و تلفزيوني في عدد من العواصم العربية، و أمسوا من كبار منتجي الأفلام الوثائقية، وطبعا لا quot;زبونquot; لهم سواء شبكة الجزيرة بقنواتها المتعددة، فنظام quot;المنتج المنفذquot; يحول دون بوار بضاعتهم المتوضعة أو إفلاس مؤسساتهم المأمورة.
و قد تناولت الصحف، وبعضها صادر من الدوحة، مواضيع ذات صلة بشبهات الفساد، وأحاديث عن تأسيس شركات إنتاج وهمية مرتبطة بالجزيرة، دخلها يقدر بين مئات الآلاف و عشرات الملايين من الدولارات. وأن التحقيق الداخلي فيها انتهى إلى مجرد نقلات صورية للمشتبه بهم من مواقع إلى أخرى لا تقل أهمية، تماما كما انتهى التحقيق الداخلي الآخر في لباس المذيعات المستقيلات إلى quot;لا شيءquot; بل تحويل التهمة عليهم، باعتبارهم متآمرين على صورة المؤسسة ناصعة البياض.
و إلى جانب دخان الفساد المالي والتحرش الجنسي، ثمة شيء لا يقبل الجدل تقريبا، وهو أن الخط التحريري للجزيرة الأم، قد طغت عليه الأحادية الفكرية والسياسية بالكامل، وأكاد أجزم أن من بقي من الإعلاميين الكبار في القناة من غير الإسلاميين الأقحاح طبعا، إما قدر أن بقاءه خير من ذهابه حفاظا على جذوة الأمل في تغيير قد يحدث يوما ما، أو أنه قرر مهادنة الإسلاميين و مسايرة أمزجتهم حتى يجعل الله له مخرجا أكرم.
و قد بلغني من أحد كبار مقدمي البرامج الحوارية، أنه لم يعد حرا في اختيار ضيوف برنامجه مثلما كان خلال سنوات الجزيرة الأولى، وأنه أصبح مطالبا بمراعاة وجود قائمة سوداء غير معلنة من الشخصيات التي يمقتها الإسلاميون، و طبعا لا تحمل هذه القائمة أسماء الإسرائيليين الذين يتداولون الكلام في قنوات الشبكة، كما تتفق تماما مع شعار الرأي والرأي الآخر الذي ما تزال تلوكه الجزيرة زورا وبهتانا.
و كل الصدق أقول، أن هدفي من كتابة هذا المقال ليس مهاجمة تيار سياسي بعينه، فلو فعل الشيوعيون أو الليبراليون أو القوميون السلوكيات ذاتها، لانتقدتهم بكل قوة، و لكنني أود توجيه رسالة إلى الإسلاميين مفادها أنكم لستم إلا بشرا كغيركم من أبناء الأمة العربية الإسلامية المصابة، لديكم القابلية للاستبداد والفساد و ممارسة الإقصاء وهتك الأعراض و تعذيب الخصوم ان استطعتم، وسجنهم وتشريدهم وحرمانهم من حقوقهم، وأنه متى ما وصلتم إلى سلطة أو حكم أو إدارة إلا و ارتكبتم ذات الحماقات التي تنقدون غيركم على ممارستها ضدكم، أما الفرق بينكم وبينهم أنهم لا يزعمون أنهم ملائكمة، وأنتم بلى تزعمون، وتصنعون الكذبة وتصدقون..ولو كان فيكم خيرا لنصركم الله، لكن الله لا ينصر القوم الظالمين.