يتحدث محللون عن قرب قيام دولة حوثية في صعدة اليمن، كما يضغط قادة ما يسمى باليمن الجنوبي سابقا منذ سنوات إلى إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل سنة 1990، و فك الارتباط مع صنعاء في أقرب الآجال. و في هذه الصنعاء يبدو أن الرئيس علي عبد الله صالح مصر أن لا يغادر الحكم حتى ينقض عروة عروة كافة إنجازاته، الوحدة والديمقراطية و الاستقرار، وما فتئ نظامه يتذرع بأسباب شتى في تسويف المطالب الإصلاحية الحقيقية، مرة بحجة الحوثيين، وأخرى بحجة الحراك الجنوبي، وثالثة بحجة القاعدة.
و على الضفة الأخرى لباب المندب، عاد الصومال إلى عصور ما قبل الدولة، و غدا أرضا مراحا لتنظيمات دينية متطرفة، وساحة أخرى يصفي فيها إبن لادن حساباته مع الولايات المتحدة، و لم يفلح الرئيس الإسلامي المعتدل شريف أحمد في تجاوز عقدة من سبقه من رؤساء قرروا بعد عام أو اثنين الفرار بجلدهم، وتحقيق سابقة في العالم العربي، أن يستقيل الرئيس من نفسه،كما فعل عبد الله أحمد يوسف، لا غيلة أو كالبعير على فراش الموت.
و إلى الشمال الغربي من هذا البلد العربي الأفريقي المسلم، سينتهي السودان على أيدي نظامه الإسلامي الورع والتقي إلى التلاشي، فبعد قيام دولة الجنوب في سنة 2011 إن جرى الاستفتاء طبعا، ستقوم دولة دارفور، وربما دول أخرى كثيرة، ما دام الفريق عمر البشير ما يزال يعتقد في انقلابه ثورة إنقاذ، وما دام أعوانه من قادة الحركة الإسلامية يزينون له السربال الذي سربله الله إياه حتى لا ينزعه، إلى آخر نبض في القلب إن شاء الله.
مصر رأس العرب ضائعة بامتياز، والمصريون تطحنهم الأزمات، ولم تفلح quot;زهرة الخشخاشquot; المسروقة، وكافة أنواع الحشيش، في أن تنسيهم البطالة والفقر والخصاصة و الهوان والتوريث و فيروس سي، و قد ارتهن مستقبلهم بصحة السيد الرئيس و طموحات الإبن غير الضال و مصالح طبقة المفسدين من محدثي النعمة وانقسام المعارضة و عدم إجماعها على مشروع وطني للتغيير وتربص الفتنة الطائفية في ظل ضمور المشاعر الوطنية.
أما ليبيا فقد أعادها السيد العقيد، وهو ليس رئيسا كما يزعم، إنما يرأس الشعب نفسه بنفسه، إلى زمن ما قبل المؤسسات والدولة والدستور والقانون، وكل زائر لها يحار في من يملك السلطة فيها، فيما يقول المعارضون أن أخطر ما في موضوع الحكم الجماهيري العتيد أنه كرس ثقافة الفوضى، وإن كتب للشعب الليبي الإفلات من مصير التوريث المراد، فإن أمامه عقودا حتى يستعيد النفس العادي لمجتمع يعيش في القرن الحادي والعشرين.
و في تونس يبدو الرئيس زين العابدين هو الحقيقة الوحيدة في الحياة السياسية، وأن ما دونه من حكومة وبرلمان ومجالس محلية بلا نكهة أو طعم أو رائحة، وعلى الرغم من أن مسلسل التوريث لم يتضح بعد على غرار الوضع في مصر، وبدرجة أقل في ليبيا، فإن العائلة الرئاسية مصممة على أن لا يفلت المستقبل من أيديها، تماما كما هو الحاضر، و أسوأ ما في الوضع تشبث النظام بممارسة ذات المسرحية في كل مرة، دون أن ينتبه إلى أن الإخراج السيء عاد ممجوجا و استعباط النخب لم يعد مقبولا، أما الذين يناشدون الرئيس بأن يستمر في الحكم إلى ما لا نهاية، فكل عارف يدرك أنهم لا يناشدونه إنما ينشدون مصالحهم المتباينة منه، و كل الشك في أنهم له مخلصون، ولا ريب في أنهم أول المنقلبين إن حدث للسيد الرئيس مكروه لا قدر الله، وعلى أي فإنه ليس بحاجة إليهم للاستمرار في الحكم، إن أراد هو ذلك ومكنه الله من الصحة و البأس والإرادة والغلبة، فتلك هي مصدر الشرعية.
وتنام الجارة الجزائر على صفيح ساخن، فعلى الرغم من وجود احتياطي لدى الدولة يقدر ب150 مليار دولار، فإن معاناة غالبية الجزائريين الاقتصادية والاجتماعية مستمرة، تماما كما الحكم الذي استقر في برزخ بين الديكتاتورية والديمقراطية وبين العسكر ورئيس الجمهورية. وعلى الرغم من تقلص رقعة الحركة أمام الجماعات المسلحة الإرهابية، فإن جذوتها لم تنطفئ بعد، وما تزال غاراتها مستمرة بين الفينة والأخرى. وفي الجنوب حيث الصحراء الكبرى الشاسعة تؤسس قاعدة بن لادن لنفسها إمارات وجيوبا، وفي الشمال ما تزال مطامح لدى بعض القبائليين في تحقيق حكم ذاتي يضعف مركز الدولة الجزائرية.
و يرواح المغرب الأقصى مكانه، بين ملكية لا ترغب في التفريط في طبيعتها الإطلاقية إلى حالة دستورية، يسود فيها الملك ولا يحكم، و صحراء غربية لم ترض بحل الحكم الذاتي، و يؤكد قادة حركتها الانفصالية البوليزاريو على قرب قيام دولتها المستقلة. كما تحلم أقاليم ذات غالبية أمازيغية، في نيل مزيد من الصلاحيات السلطوية على حساب السلطة المركزية، أما الواقع الاجتماعي والاقتصادي فيؤكد أن الفجوة الشاسعة بين فقراء المملكة وأغنيائها لم تجسر بالرغم من طفيف الإصلاحات السياسية، وأن الخيار الإصلاحي كان خادعا، بعد أن لم يعد ممكنا السير في خيارات ثورية راديكالية.
و آخر السرب في مغرب العالم العربي موريتانيا، قد عاد إلى مداره العربي الشمولي، بعد أن ندم الموريتانيون على خيار الديمقراطية والانتخابات النزيهة والشفافة، وسرعان ما قفلوا راجعين إلى المربع الأول، حيث شرعن القائد العسكري انقلابه على الشرعية وعاد بالخديعة رئيسا شرعيا منتخبا، و أصبح له في أقل من طرفة عين حزب حاكم و منظرون ديمقراطيون و بطولات في التصدي للإرهاب و مواجهة القاعدة.
و في بلاد المشرق العربي، لا يملك العراق الغارق في حروبه الداخلية أي ضمانة في مواجهة مشاريع التقسيم والفتنة الطائفية، كما تخضع سوريا لحكم الأقلية الطائفية، و يرواح لبنان مكانه بين أخطار الحروب الأهلية والحروب الخارجية، أما الأردن فليس سوى إرادة ملكية، في ظل حكومات متعاقبة لا يجد الناس وقتا لحفظ أسماء وزرائها و اعتماد دائم لميزانية الدولة على المساعدات الخارجية. وأخيرا فإن القضية الفلسطينية أضحت قضيتين، سلطة الضفة الغربية وإمارة حماس الإسلامية، وإسرائيل تلعب على حبال الانقسام الفلسطيني والعجز العربي و التواطؤ الدولي.
بلدان الخليج العربي مأزومة بدورها، فشبح الأزمات الاقتصادية بدأ يطل برأسه عليها بعد طفرة نفطية استمرت عقودا، وهي محاطة بمعصم متفجر من حركات التمرد و الإرهاب والعنف، كما هي على مرمى حجر من التهديدات الإيرانية و الفتن الطائفية والصراعات الحادة بين التيارات الإصلاحية و التيارات الدينية المتشددة، فضلا عن أسئلة عميقة حول حقيقة نضج المشاعر الوطنية فيها، باعتبارها دولا حديثة الوجود في مجملها، إلى جانب إشكالية انتقال السلطة فيها بعد موت المؤسسين و الوارثين و تولي أجيال جديدة للحكم فيها.
لم يفلح العرب في حسم أي من الأسئلة الكبرى التي طرحت عليهم بعد رحيل المستعمر، فهم لم يحسموا أمرهم و ينخرطوا في بناء دولة أمة أو دولة قومية تكون وعاء لنهضتهم، كما هو حال جيرانهم من فرس وترك وغيرهم، ولم يستقروا إلى الآن أو يقتنعوا بهوية وطنية قطرية، حيث تبدو الدولة القطرية العربية الراهنة في طريقها إلى الانهيار بعد إدراكها عجزا تاما على كافة الأصعدة.
لم يحسم العرب أيضا أمرهم في موضوع طبيعة الدولة أو الدول التي أقاموا، فهم لم يتحولوا إلى العلمانية أو الحداثة أو الديمقراطية، و فشلوا في بناء نماذج هوية سياسية وعقائدية بديلة حيث لا يمكن توصيف دولهم بالإسلامية أو الدينية أو الثيوقراطية.
واقع العرب مائع جدا و مستقبلهم محفوف بالمهالك و أخطر ما في الموضوع أنهم افتقدوا القدرة منذ عقود على انتاج مشاريع نهضوية جديدة قادرة على مد الأجيال الجديدة ببعض الأمل، و مع الجهد العظيم الذي بذل في تحطيم المشاريع النهضوية السابقة، قومية وإسلامية وليبرالية و يسارية، فإن أي جهد فكري أو سياسي أو ايديولوجي ملموس لم يبذل في سبيل تقديم بدائل أو بديل..إننا أمة فقدت بوصلتها القديمة و أعدمت القدرة على امتلاك بوصلة جديدة، و دول طوائف تدور الحياة فيها حول quot;معتضدquot; أو quot;معتمدquot; أو quot;معتصمquot;، أو بالأحرى حول quot;هرquot; يحكي انتفاخا صولة quot;الأسدquot;، أسد على الشعب وفي الحروب نعامة.
* كاتب تونسي
- آخر تحديث :
التعليقات