رحل الاستاذ محمد مزالي، رئيس الحكومة التونسي الأسبق، عن هذه الدنيا الفانية، يوم 23 يونيو 2010، بشكل مفاجئ بالنسبة لي على الأقل، فقد كان آخر لقاء جمعني به قبل أسابيع قليلة من وفاته، في منزله الجديد بضاحية المنزه التاسع، أحد أحياء العاصمة التونسية، وقد انصرف جزء من حديثنا كالعادة عما حباه الله به من وافر صحة ولياقة جسمانية يغبطه أكثر الناس عليها، حتى أن نكاته يومها انصرفت إلى الحديث عن بعض طلبته الذين درسهم خلال الخمسينيات في مدارس ثانوية تونسية، ويعتقد جل معارفهم أنهم أنداد في العمر له أو ربما يفوقونه سنا.
قابلت سي محمد حينها ولم ألاحظ أنه يشكو من أي وهن. ذاكرة قوية وحركة رشيقة وبديهة حاضرة وصوت واثق..لا شيء يحمل رائحة الموت أبدا. ولما بلغني أنه قد نقل إلى إحدى المستشفيات الباريسية لوعكة صحية ألمت به، كلمته فورا ووعدته بزيارة سريعة، لكنني لم أف بوعدي. كان صوته الواثق نفسه في الهاتف لم يتغير، ولهذا ربما لم أتخيل أن quot;سي محمدquot; لن يغادر سرير مرضه إلا إلى مثواه الأخير..رحمه الله بقدر ما حمل قلبه من حب للشعب التونسي ولعامة العرب والمسلمين والإنسانية.
شيء واحد مهم لا بد من قوله في هذه الانطباعات الشخصية، أنني حينما قابلته آخر مرة في تونس، شعرت بأنه قد وضع وزرا ثقيلا كان يحمله على كتيفيه طيلة إقامته الباريسية التي قاربت العقدين من المنفى القسري. كان مبتهجا بإقامته الجديدة التي أشرفت على تشييدها إحدى بناته، وقد حرص على أن يطلعني على ركنه الأثير فيها، مكتبته التي غصت رفوفها بمؤلفاته ومختاراته وأرشيفه الأدبي والفكري والسياسي، وعدد كبير من شهادات التكريم والجوائز والدروع، وصور مع زعماء ومقالات صحفية وأعمال فنية وتشكيلية تعود إلى أكثر من نصف قرن من العمل المضني في الهجرة والحكم والمنفى.
شعور سي محمد بالراحة، كما وصلني في دارته التونسية، مرجعه في رأيي أمران، أولهما أنه quot;قال نصيبه من الحقيقةquot;، وثانيهما أنه رجع إلى بلاده ضمن الصيغة القانونية والسياسية التي طالما ناضل من أجل تحققها، ورفض أي مساومات حولها. لم يؤلمه أبدا تنازله عن بيته الذي بناه بعرق جبينه طيلة ثلاثة عقود من العمل الحكومي، ولم يكن لديه أي مانع في عدم تسديد جراية تقاعده بعد أن أقيل من موقعه الحكومي ظلما وعدوانا، ولكنه لم يكن ليرض أبدا بعودة لا تجبر كرامته المهانة أو تترك الباب مفتوحا دون حسم يبين براءة ذمته التامة من أي تجاوزات أشيعت حوله كيدا وبهتانا.
الكلمات التأبينية الرائعة التي كتبها صحفيون وكتاب تونسيون بارزون من أمثال صلاح الدين الجورشي ومحمد كريشان ومالك التريكي، أثبتت جميعها أن الحقيقة التي كافح quot;سي محمدquot; من أجل بيانها، قد وصلت إلى جزء كبير من التونسيين، أو على الأقل من النخبة التونسية، بل إن مثل هذه الكتابات قد أثبتت أن زرع الرجل قد أثمر، وأنه فعلا قد ترك تلامذة ومحبين خلصا وأوفياء، التقطوا رسالته وفهموا إرادته ووعوا نبل مقاصده وحقيقة مذهبه ورجاحة خياراته، رغم خيبات الواقع ومرارة التجربة وتنكر العامة.
قد يبدو هذا الكلام لغير التونسيين غير مفهوم، ومن هنا وجب التوضيح، فمحمد مزالي رجل حكم تونسي، تقلد أرفع المسؤوليات منذ استقلال البلاد عن فرنسا سنة 1956. تولى حقائب وزارية متعددة، كان آخرها الوزارة الأولى منذ 1981 وإلى غاية 1986. من إنجازاته تأسيسه للإذاعة والتلفزة التونسية، وإشرافه على مشروع تعريب التعليم التونسي، الذي قيل أنه كان السبب في تألب الغرب عليه، وغضب الرئيس بورقيبة منه.
و سي محمد رجل حكم تونسي غير تقليدي، فهو أديب وكاتب ومفكر، له العديد من المؤلفات كان آخرها كتاب quot;نصيبي من الحقيقةquot; الصادر عن دار الشروق المصرية، والذي ضمنه جزء كبيرا من سيرته الذاتية.
ولعل سي محمد هو الوزير العربي الوحيد الذي حافظ إلى جانب وزارته الممتدة على ثلاثة عقود، على رئاسة تحرير مجلة quot;الفكرquot;، وهي مجلة ثقافية وأدبية، لم يصدر لها مثيل في تونس منذ انقطاعها برحيل صاحبها مكرها عن البلاد سنة 1986، وقد شكلت الكتابة فيها شهادة اعتراف بالنبوغ والأهلية لعدد كبير من الكتاب والشعراء التونسيين، بل لربما كانت هذه المجلة صلة الوصل الأساسية بين تونس والبلاد العربية.
و على الرغم من تولي سي محمد الحكم في أصعب فترة مرت بها تونس المستقلة، أي السنوات الخمس الأولى من عقد الثمانينات، إلا أن النخب التونسية اليوم، السياسية والفكرية والنقابية جميعها، تكاد تجزم بأن هذه السنوات كانت الأكثر حرية وحركية وديمقراطية مقارنة بأي فترة أخرى من تاريخ تونس المستقلة، بل إن دراسة اقتصادية صدرت عن الاتحاد العام التونسي للشغل (المؤسسة النقابية الأهم) أثبتت أن سنة 1984 كانت الأفضل بالنسبة للقدرة الشرائية للمواطن التونسي.
لقد تميزت سنوات سي محمد في الحكم، على الرغم من المؤامرات ومرض الزعيم بورقيبة وتكالب مراكز القوى على الخلافة، بديناميكية غير معهودة على كافة المستويات، فقد أقنع الوزير الأول رئيسه الشيخ بقبول التعددية السياسية لأول مرة والسماح بتعددية إعلامية وصحفية غير مسبوقة، فضلا عن مبادرات اقتصادية رائدة، قامت على فلسفة تنموية استلهمت الكثير من مثل ومبادئ حركات التحرر الوطنية، حيث دعيت دول الخليج العربية إلى الاستثمار المكثف في تونس لأول مرة، ودعي في إطار ما سمي بquot;التعاون جنوب-جنوبquot; إلى تبادل الخبرات والبضائع بين دول العالم الثالث بعيدا عن هيمنة الدولار والدول الغربية، وشجعت حركة المقايضة مع الصين وتركيا وعدد من الدول الأفريقية.
على الصعيد المحلي أيضا، أدخل سي محمد ديناميكية متميزة على الهياكل الحكومية، محاولا الاستفادة من تجربة quot;التعاضدquot; الاشتراكية الديمقراطية التي تبنتها تونس خلال السيتينيات، دون استفزاز الطبقة البورجوازية أو التصادم مع روح المبادرة الفردية، وذلك من خلال تشجيع ذوي الدخل المحدود على تأسيس مشاريع تنموية متوسطة وصغيرة، في إطار خطة حكومية عرفت بإسم quot;التنمية الريفيةquot;، لعلها ستكون لاحقا قاعدة سيبني عليها النظام التونسي العديد من مشاريع النهوض الاجتماعي والتنمية المحلية المشابهة.
و قد واصل سي محمد على صعيد التربية والتعليم النهج ذاته، الذي آمن به وبدأ في تطبيقه منذ تولى وزارة التربية، أي تعريب المناهج التربوية، فعلى الرغم من أنه خريج السربون ووواحد من أفضل الأجانب الذين تكلموا وكتبوا بلغة موليير، إلا أن القناعة لم تفارق رجل الفكر والحكم التونسي، في أن أمة لن تنهض بالاعتماد على لغة أجنبية، وأن لغة النهضة بالنسبة للشعب التونسي، لن تكون سوى العربية.
خلال صيف 1986 واجه سي محمد مؤامرة كبرى، فقد أقنع الزعيم بورقيبة بأن وزيره الأول يخطط لإقالته ليحل محله، وهو ما اضطره إلى الهرب متخفيا عن طريق الحدود الجزائرية، بعد أنه بلغه أنه سيعدم حتما إن بقي. ومن منفاه الباريسي وبروحه الرياضية الخارقة وروحه الفكرية الخلاقة، كرس سي محمد جزء غير قليل من وقته وجهده لإطلاع شعبه على حقيقة.
حقيقة سي محمد أنه رجل نزيه نظيف اليد، نذر نفسه لخدمة بلده وشعبه بلا كلل، ودافع عن قيم أمته وأهله، وناضل من أجل أن يكون استقلال تونس استقلالا حقيقيا، ولم يتردد في المجازفة بمنصبه الوزراي من أجل أن يرى مجتمعه ومؤسسات الحكم فيه تسير في اتجاه الحرية والديمقراطية والتنمية، الممنوعة داخليا والممانعة خارجيا، وقد راهن على الحوار مع مخالفيه ومنتقديه وحتى المتآمرين عليه، واستبدل اللكمة بالكلمة كما كان يفتخر ويردد في جلساته الخاصة والعامة.
في إحدى جلساتي معه، سلمني سي محمد نسخة من كتابه quot;حديث الفعلquot;، الذي يكشف فيه بالوقائع والأرقام أنه ليس رجل حديث وخطابات كما أحب البعض تصويره، ولكنه رجل فعل وانجازات كما تشهد بذلك السير، ولهذا الكتاب طرفة سيسع مجال في المستقبل لذكرها بلا شك، لكنني أردت أن يكون حديثي التأبيني هذا حديث قلب أيضا، فلقد أحببت هذا الرجل في الحكم والمنفى، وهو صاحب فضل علي وعلى أبناء جيلي والتونسيين جميعا، ولأنه شرفني بأن منحنى بعضا من وقته لأكون تلميذا في مدرسته الفكرية والسياسية ورفيقا في بعض سفره، وأنيسا في بعض وحدته.
و من عظيم خصاله وفضائله حبه لتونس وتوفقه الكبير في الجمع بين السياسة والأخلاق، وهما أمران لا يجتمعان عند غالبية الساسة، خصوصا في بلادنا العربية والإسلامية السعيدة..رحم الله سي محمد رحمة واسعة فهو بلا ريب من الصالحين، وغفر الله لكل من ظلمه حيا أو ميتا.
* كاتب تونسي