الطموح صفة حميدة في الشعوب كما الأفراد، ولكن الطموح لا يمكن أن ينفلت من عقال الواقع.
كان الزعيم بورقيبة قد تمنى في أحد خطبه أيام الستينيات، لو كانت بلده بجوار البلاد الاسكندنافية، ربما لأنه كان في تلك الأيام طموحا لإلحاقها بركب الشعوب الغربية المتقدمة، أو ربما ndash; وهذا أقرب للصواب- لكونه من العارفين بوطأة المحيط وتأثيره القوي، فتونس و إن حباها الله ببورقيبة، لكنها لا تملك أن تكون السويد، تماما كما أن توسط ليبيا والجزائر مختلف عن توسط النرويج والدنمارك.
إذا قرأت في بعض صحف المعارضة التونسية، وأقصد هنا معارضة المعارضة وليس معارضة المعاضدة، تستنتج أنه كان مفترضا أن تكون تونس اليوم بلدا يحلق خارج السرب العربي، تنمية وديمقراطية، في حين لو سألت كل عرب الجوار لوجدتهم في غالب الأمر يحسدون التونسيين على ما تحقق لبلادهم على قلة مواردها من تقدم ورخاء، ولعل الأمر مرده أن معايير التقدم و الرخاء مختلفة بحسب الأوضاع والأزمنة والشعوب.
بعض هذه المعارضة يعيش في الغرب، ومحاججته للنظام غربية المعايير صرفة، لكن المفارق أن معاييره هذه لا توجه سهامها إلا للحكم في بلادته التونسية، فهو لا يرى غضاضة في التعاطف مع الدكتاتور الراحل صدام حسين، أو التضامن مع نظام حسن البشير، أو حتى امتداح طالبان والدعوة سرا بالنصر والتمكين للشيخ أسامة بن لادن، تماما كما أنه لا يجد منكرا في ارتباط قطر بحماية الأمريكان وتواصلهم مع الإسرائيليين، لكنه يهيج و يزمجر لمجرد سماعه خبرا عن تطور علاقات بلاده مع الولايات المتحدة أو استضافتها لقمة أممية يحضرها مسؤول إسرائيلي.
هذه المعارضة أيضا، تجد كل السبل لتبرير بقاء قادتها على سدة أحزابهم وجماعاتهم لما لا نهاية، وتقريب الأقارب وتصفية المنتقدين و إلحاق الضرر المادي والأذى النفسي بغير المرضي عنهم والضالين، ولكنها تفتقد كل مقدرة على التفسير أو التأويل أو التماس العذر لأشقائهم الذين هم في السلطة، على الرغم من أن مغريات السلطان أقوى، وحجتها في الشرع أمضى، أفلم يقل عثمان بن عفان (رض) أنه لن ينزع سربالا سربله الله إياه.
الشق الإسلامي من هذه المعارضة، يستنجد بالأدوات الشرعية متى شاء، و يهمشها متى شاء، و يفعل الأدوات الغربية متى رغب و ينساها متى أراد، و للسائل أن يسأل لماذا تنازل الإسلاميون في تونس عن تطبيق الشريعة، وهي ركن من أركان الإسلام السياسي، و يتشبثون في محاججة ولي الأمر بأسلحة من صنع الكافرين كتحديد عدد الولايات الرئاسية و الفصل بين السلطات وإضعاف السلطة التنفيذية لصالح التشريعية والقضائية.
لست أرى في ظل كل هذا الجدل المثار حول واقع الحياة السياسية التونسية، أن المعارضة الحالية يمكن أن تشكل بديلا لنظام الرئيس بن علي، فهي معارضة ما تزال على يمينه ويساره، فالإسلاميون بقيادتهم الحالية و خطابهم الراهن لا يمكنهم أن يحكموا بلدا كتونس، رأسماله في البشر وعلاقاته الخارجية، و اليساريون فضلا عن تشرذمهم اللامحدود يضلون نخبا غير متجذرة شعبيا، خطابهم السياسي والفكري يفتقد الجاذبية ويثير على المستوى القاعدي الكثير من الشبهات و الحساسية.
بل لعل الإحساس الذي يسيطر علي ndash; وقد يكون إحساسا شخصيا بل مرضيا إن شئتم-، وهو إحساس نابع من تجارب شخصية، أن المعارضة التونسية، وخصوصا قادتها البارزين، لا يمتون للفكر والممارسة الديمقراطيين بصلة، خلافاتهم فيما بينهم ومع الآخرين لا حد لها، وكل واحد منهم لا يطيق الآخر، وإن اضطر للجلوس معه فإنك تجده قد خبأ سكينه وراء ظهره في انتظار أن يجهز به على أخيه..وخلاصة أمرهم أنه لا مأمن على مصلحة البلاد من جيلهم، ولعل الله يجعل للبلاد في جيل معارضين جدد أمرا مختلفا.
إنني احترم كل جهد معارض، وأومن بحق كل تونسي ndash; وكل إنسان- في التعبير عن رأيه ما لم يعمد إلى فرضه على الناس بالقوة، كما أقدر كل مساهمة مخلصة في سبيل بناء تونس أكثر حرية وديمقراطية، لكنني في الوقت نفسه أريد أن أصارح بأنني أرى حصيلة الرئيس بن علي في الحكم جد مرضية، و أنه كرئيس شغل وظيفته بقدر كبير من التوفيق والوطنية، وأستند في هذا القول إلى إيمان بأن تونس لا يمكنها التغريد بعيدا عن سربها، لكنها على أية حال تتقدمه، ولا يمكنني أن أتخيل حصيلة أفضل لو أن شخصا آخر حل مكانه قبل ثلاثة وعشرين عاما..
تقديرات المعارضة على أهميتها تظل مجرد تمنيات، عادة ما تنقلب إلى مقولات أخرى بمجرد وصول أصحابها إلى السلطة، فمنطق الحكم مختلف، أكثر واقعية في الغالب، وكم من إسلامي كان في المعارضة ديمقراطيا عظيما، فإذا ما تسلم السلطة لم يغادرها، وكم من قومي عربي كان وحدويا مجلجلا أيام المعارضة فلما استوى على الكرسي صار أكثر قطرية من أي رجعي عميل للامبريالية، وكم من يساري مناصر لقضايا العمال والكادحين، أضحى بعد نيل الراية من الطغاة و الجلادين.
لقد زعموا أن تونس قد كفرت، وهذه مساجدها عامرة وأهلها مسلمون، و زعموا أن تونس قد خانت هويتها العربية، و هذه مدارسها وإدارتها ومرافقها و إعلامها عربي فصيح، و زعموا أن تونس قد والت، وهذه سياستها الخارجية ما تزال سائرة إلى جانب قضايا أمتها العادلة بقدر المستطاع، لم تطبع أو ترفع علما للدولة العبرية، و زعموا أن تونس على شفير أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، لكن اقتصادها المعتمد على الموارد البشرية لم يركد و نسب نموها تقدمت سائر الدول العربية والأفريقية وعجلة التزاماتها الحكومية ما تزال دائرة بطريقة مرضية...
مسؤوليتنا أن نؤسس لخطاب معارضة عقلانية، يضع في الحسبان ظروف الواقع و سنن التاريخ و حقائق الثقافة الشعبية و إكراهات الحكم وأحكام المحيط و التزامات العلاقات الدولية و المرجعيات الأخلاقية والإنسانية.