ضغطت حركة الشارع التونسي، ومعها كثير من قوى المعارضة، في اتجاه إقصاء السيد محمد الغنوشي الوزير الأول الذي تحمل لمدة 24 ساعة مسؤولية رئاسة الجمهورية إثر مغادرة الرئيس بن علي البلاد، باعتبار أنه الأمر قد جرى وفقا لتكييف قانوني خاطئ، ودعت إلى تطبيق المادة 57 مكان المادة 56 من الدستور، وهو ما جرى فعلا حيث كلف رئيس مجلس النواب بمهام الرئاسة لمدة لا تتجاوز 60 يوما، ستجرى بعدها انتخابات رئاسية.
و كان الأفضل حسب رأيي، ورأي عدد من الديمقراطيين التونسيين، لو أنه أعطيت فرصة للسيد الغنوشي بناء على روح الدستور، وليس حرفيته، لأن ذلك كان سبمكن القوى الوطنية من مراجعة الدستور الحالي و تنقيح المواد المتعلقة بالانتخابات، الرئاسية منها والتشريعية، لتتفق أكثر مع شروط النزاهة والشفافية و القيم الديمقراطية المتعارف عليها دوليا، ذلك أن العمل بالمادة 57 من الدستور وتولي رئيس مجلس النواب الرئاسة، لن يتيح هذا الأمر، وسيجبر على تنظيم الانتخابات الرئاسية وفقا للدستور الحالي المفصل في عهد الرئيس السابق على مقاس النظام، والذي سيحرم العديد من التونسيين من الترشح، إذ يشترط تزكية المترشح للرئاسة عددا من النواب ورؤساء البلديات.
و وارد أن ترتكب الثورات أخطاء كبرى، جراء ضغط الآراء الراديكالية والمتشددة، التي تسهل بخطابها المزايد عمل القوى الخفية في النظام السابق لإنفاذ مخططاتها الانقلابية على إرادة الشعب، و محاولة إعادة الحالة السياسية إلى حالة مائعة تحفظ مصالح بعض المتنفذين سياسيا واقتصاديا. فالحذر كله إذا من خطابات المزايدة السياسية، وليدرك التونسيون أنهم أمام فرصة تاريخية لبناء نظام سياسي نموذجي يساعد العالم العربي على التحرر من حالة التيه الراهنة التي يعيشها.
و إن تجارب الانتقال الديمقراطي تقتضي تحلي قيادات القوى السياسية بقدر كبير من السمو الأخلاقي و قيم التسامح و التجاوز و التركيز على المستقبل بدل الغرق في متاهات الماضي و الخصومات الشخصية والحزبية التي يمكن أن تضيع على الشعب التونسي فرصته التاريخية و دماء الشباب الذين ضحوا بأرواحهم من أجل بناء تونس أكثر حفظا لكرامة مواطنيها و حرياتهم.
و على الرغم من وجوب الخوف و الحيطة من المؤامرات والدسائس الداخلية التي ربما سعى البعض إلى تنفيذها بغية الالتفاف على إرادة الشعب، فإنني على ثقة بأن هذا الالتفاف أضحى غاية في الصعوبة لاعتبارين أساسيين أولهما أن التغيير لم ينتج هذه المرة عن صفقات سياسية بين الحكم والمعارضة أو عمليات مراجعة من داخل النظام، إنما أتى جراء ثورة شعب، وهذا الشعب سيكون قادرا على حماية ثورته ولن يقبل بغير نظام ديمقراطي فعلي، أما ثانيهما فإنه لن يكون ممكنا لأي سياسي من داخل النظام أو من المعارضة أن يحلم أو يعمل على تكرار تجربة الرئيس بن علي، الذي انتهى غير قادر على تأمين ملجأ آمن لو لا إجارة قادة المملكة العربية السعودية المشروطة.
و خلاصة القول أن ما بعد الثورة عادة ما يكون أخطر من الثورة نفسها، و أنه على التونسيين أن يضربوا مثلا رائعا في الوحدة الوطنية و الحوار الديمقراطي مثلما ضربوا أروع الأمثلة في تصميمهم على التغيير.