الحلقة الاولى

مع حلول أعباد الميلاد والعام الجديد، لا يسعنا غير تحية مسيحيي العالم، وإعلان التضامن مع المسيحيين المضطهدين، من عراقيين وغير عراقيين، في بلدان عربية وإسلامية وأفريقية وآسيوية، وغير إدانة قوى وعناصر التطرف التي تجعلهم هدفا للتفجير والاغتيال والتهجير؛ ومن تكون هذه القوى غير أقلية من المسلمين، ولكنها أقلية تجد دوما مسلمين، إما يبررون جرائمهم، أو يلتزمون الصمت عنها. فمع أعياد الميلاد، جرت سلسلة تفجيرات لكنائس في نيجيريا والفيليبين، وهما ليستا بلدين إسلاميين ولكن الجناة هم من المسلمين. وفي العراق، لم يستطع المسيحيون، بعد جريمة كنيسة النجاة وسلسلة الاغتيالات، الاحتفال إلا فيما يشبه التستر وبلا إعلان. مع ذلك، يقال بأننا غير عنصريين، ولا نكره الآخر، ولكن الغرب هو مركز الكراهية والإقصاء! وعجبا لمن يقولون ذلك وهم في الغرب، دون أن يفسروا أسباب بقائهم في دول الإقصاء والكفر ورفض الآخر؟! وأسباب عدم امتناعهم عن أخذ المعونات السخية من هذه الدول نفسها، إلا إذا اعتبروا ذلك ضريبة لازمة أو مجرد جزية!!

هذا يتصل بموضوع المقال السابق، وما سبقه من مقالات لي، على مدى سنوات نشاط إيلاف، بل منذ ميلادها السعيد. وهذا ما عالجه أيضا فريق من كتابنا المنصفين والموضوعيين، مرة بعد أخرى، وخصوصا منذ 11 سبتمبر، سواء في إيلاف أو في الصحف الأخرى.

لقد توقفت في المقال الأول عند قضية الإرهاب الجهادي، وسوف أواصل في هذا الموضوع قبل الانتقال في مقال قادم إلى إشكالية الهجرة وتعدد أوجهها ومشاكلها وتجاربها في الغرب.

لقد استقبلت الدول الغربية أعياد الميلاد بمنتهى التوجس واليقظة خشية وقوع عمليات إرهابية جديدة من النوع quot; الجهاديquot;ـ أي المتستر بالإسلام والقرآن الكريم. وهذا الموقف المتوجس، القلق، له مبرراته من كمية المعلومات المتيسرة لدى أجهزة هذه الدول واعترافات بعض المقبوض عليهم. وفي هذه الأيام يتم القبض على صوماليين في هولندا كانوا يخططون لعلميات إرهابية، وعلى ثلاثة متهمين في النرويج، ومن قبل، اعتقالات في لندن لمتهمين عرب بمحاولة الاعتداء على البابا، واعتقالات في إسبانيا لخلية من عشرة، ألخ..

هذا الإرهاب الجهادي يختلف كلية، في طبيعته وأهدافه ومستهدَفيه، عن إرهاب التنظيمات والعناصر الغربية الفوضوية أو التي من قوى اليسار المتطرف، كالطرود المفخفخة التي أرسلتها، لعدد من السفارات في اليونان وإيطاليا، تنظيمات فوضوية صغيرة سرية تستهدف الحكومات، غربية وغير غربية، وهي لها هدف سياسي محدود، ونشاطها مقتصر على بلد بعينه أو على منطقة معينة. وهذه العناصر والتنظيمات لا تستخدم الدين ستارا، ولا تستهدف قتل المدنيين الأبرياء بالجملة، ونشر الرعب بين السكان. فعملياتها، التي يدينها القانون، وهي جرائم بشعة، موجهة للحكومات ورموزها- كما بينا. كذلك هي حالة quot; الباسك الإسبان الذين يريدون الاستقلال، وانفصاليي كورسيكا. وهكذا شأن جمعيات مسيحية متطرفة في أميركا تقاوم بالعنف المراكز الطبية التي تمارس الإجهاض وتعتدي على الأطباء الذين يمارسونه. وهناك أيضا quot;الفاركquot; في كولومبيا، ومن قبل، التنظيمات الفوضوية السرية التي ظهرت في اليابان وألمانيا وإيطاليا في الثمانينات.

أما إرهاب الجهاديين المسلمين، من المذهبين، فإن ميدان نشاطه الإجرامي يتعدى المناطق والقارات؛ ورغم أنه موجه أساسا ضد الغرب ومصالحه خارج بلدانه، فإنه أيضا يقترف جرائم الإرهاب في العالم الإسلامي نفسه، كتفجير البشر بالجملة كما في العراق وباكستان وأفغانستان، وتفجير المساجد بالمصلين. وها إن إرهابيي باكستان يفجرون العشرات من الفقراء الذين كانوا ينتظرون إعانات إنسانية دون أن نسمع عن مظاهرات احتجاج في الدول الإسلامية أو بين الجاليات المسلمة في الغرب!

إن شبكات القاعدة، بكل مواطنها ومراكزها، تستهدف إلحاق أكبر خسائر بشرية ممكنة بالمدنيين، وكل عملية كبيرة من عملياتها تؤدي لخسائر تكون أضعاف خسائر العشرات من عمليات الفوضويين المتطرفين في الغرب. وهكذا، لا يجب أن نعد كم عملية أو محاولة عملية قام بها الفوضويون الغربيون خلال السنوات الأخيرة، وكم عدد عمليات القاعدة وأخواتها، وإنما أية عمليات كانت جرائم عمياء تستهدف المدنيين أساسا ونشر الرعب، وضحاياها بعشرات المئات والآلاف، لاسيما منذ 11 سبتمبر وتفجيرات مدريد ثم لندن. ولو تسنى للإرهابيين الإسلاميين القادمين من ألمانيا عام 2000 تفجير كاتدرائية تسراسبورغ وساحة الاحتفالات في عيد الميلاد، لكان الضحايا لا يعدون ولا يحصون، وهم مدنيون جاؤوا للصلاة والاحتفال، وبينهم الأطفال والشيوخ، وليسوا قادة شرطة وأمن و جيش، أو رؤساء دول. كذلك عمن يفجرون الكنائس والمساجد والمعابد على مصليها الأبرياء.

الإرهاب الجهادي ينطلق من أيديولوجيا تعتبر الغرب، بل وأكثر من نصف العالم الإسلامي نفسه، أوكار فساد وفجور وكفر يجب القضاء عليها، وبناء الدولة الإسلامية الكبرى على أنقاضها. وما كان يقترفه جيش المهدي في العراق تحت إمرة فيلق القدس يدخل في هذا الإرهاب الجهادي الدموي. وإذا كانت الفرق المتطرفة التي تقود إيران كالجنّتية، والتنظيمات الشيعية المتطرفة الخاضعة لها في العراق وغيره، تؤمن بأن العالم مقبل على الفوضى والهدم تمهيدا لظهور الإمام الغائب، فإن القاعديين يسيرون وفق ما يرد في كتاب quot; إدارة التوحشquot;، الذي توقفنا لديه في أحد مقالاتنا، والذي يصف العالم بأنه يعيش مرحلة الفناء الحضاري quot;بعد أن quot;وصل الانحلال الأخلاقي مداهquot;[ هكذا؟]، وإذن فلابد من هدمه وبناء جديد المتطرفين عليه. وهو أيضا ما كان يبشر به سيد قطب [ بعد تحوله من المثقف المنفتح إلى متطرف متشدد]، في كتابه عن أميركا ، وزعمه أن أميركا تعيش إفلاسا فكريا كما في الجاهلية الأولى، وأن الحضارة الغربية زائفة ولم تقدم للبشرية زادا من الروحية، مضيفا quot; كم اكره أولئك الغربيين وأحتقرهم كلهم بلا استثناءquot;، وإن الرجل الأبيض quot; هو عدونا الأول، سواء كان في أوروبا أو في أميركا، وهذا ما يجب أن يكون حجر الزاوية في تربيتنا، وإن أولادنا في المدارس يجب أن تربي مشاعرهم على مظالم الرجل الأبيض - ص135- [ انظر مقال المستشار محمد سيعيد العشماوي في إيلاف عدد 20 أبريل 2003 ، وحيث يذكر أن كتاب قطب هذا كان مقررا على طلبة الثانوية في المملكة السعودية في الثمانينات وككتاب مطالعة يمتحن فيه الطلاب!].

لقد جاء كثيرون من المسلمين، بمن فيهم من بين المثقفين، للغرب وقد غسلت أدمغتهم بهذه العقلية الكارهة للغرب، سواء بتأثير مفاهيم الإسلام السياسي أو الدعاية السوفيتية واليسارية سابقا أو دعايات قومية متشنجة ناصرية أو بعثية؛ وإذا كان هناك، بين المثقفين الوافدين، من أعادوا النظر في هذه المفاهيم تماما، فإن عددا كبيرا منهم لا يزال تحت سيطرتها بوعي أو بلا وعي، وهي تنفجر عندهم عند أي حدث يمس أشخاصهم، أو أي حدث سياسي معين، أو تصرف فردي سلبي من مواطن غربي يعتبر مسيئا للإسلام أو عنصريا- رسما كان، أو كتابا، أو تهديدا بحرق القرآن، أو اعتداء على مسلمة أو مسلم. فلنتذكر ردود الفعل الهائجة في مصر وبلدان عربية أخرى وفي ألمانيا عند مقتل المرحومة مروة الشربيني، وكيف سارت المظاهرات ضد ألمانيا نفسها وسفاراتها مع أن الجريمة اقترفها متطرف مجرم فرد. وجرى أكثر من ذلك في الغرب والعالم الإسلامي عند قضية الرسوم إياها، أو عند تهديد قس أميركي متطرف بحرق القرآن، وما غير ذلك من حالات فردية، وكيف تستغل لأجندات سياسية كما حدث مع استغلال إيران وسوريا لقضية الرسوم، فهناك كانت أكثر ردود الفعل صخبا وعنفا. وبينما كان الدانيماركيون يتظاهرون بهدوء وهم يحملون شعار quot;آسفونquot;، كانت المظاهرات الباكستانية تجأر وتصرخ في هستيريا وتشنج فاضحين، وتدعو لقتل quot; من يشتم الإسلامquot;.

وبينما أبدى شيخ الأزهر الراحل تفهمه لتطبيق فرنسا لقانون العلمانية في مدارس الدولة عام 2006، اندلعت في ضواحي باريس مظاهرات صاخبة، يتقدمها رجل غطى وجهه، وتحمل شعارات استفزازية. وما أن وصلوا جوار كنيسة معروفة حتى خروا ركوعا وسجودا كتحد واستفزاز. وكان بينهم من يرتدون لباس حماس. وصرح داعية إسلامي هو محمد بن خيرة أن اندماج الفرنسيين المسلمين على طريقة الجمهورية الفرنسية quot; عملية إجراميةquot;!

وقد كتب الكاتب الخليجي تركي الحمد في حينه منتقدا تلك المظاهرة:

quot; أن يحتج الفرنسيون المسلمون على هذا القرار حق من حقوقهم، لا بصفتهم مسلمين، ولكن بصفتهم مواطنين فرنسيين يمارسون حق التعبير عن الرأي، وهذا حق يكفله الدستور والقانون هناك، كما هو حق لليهود والكاثوليك وغيرهم، بصفتهم مواطنين فرنسيين لا بصفتهم الفئوية.ولكن في نفس الوقت، لا يحق لهم الخروج على القانون، عندما يصبح القرار قانونا، بصفتهم مواطنين أيضا. فكما أن المواطنة تعطي حقوقا، فهي تعني واجبات والتزامات أيضا، ولا يمكن الإخلال بذلك التوازن بين الحقوق والواجبات...quot; ولكن المسلمين في الغرب يتصرفون، وعدا الشرائح المندمجة، كمسلمين ينتمون فقط لبلدان الأصل وليس كمواطنين في فرنسا أو ألمانيا أو السويد ،أو هولندا، ألخ.

إن الإسلام السياسي هو المسيطر على جمهرة كبيرة من مسلمي الغرب، وإن حرية بناء المساجد ، وهي تعد بعشرات الآلاف، تتحول أحيانا لحرية استغلال المسجد لنشر الكراهية والتطرف وحتى لتجنيد الإرهابيين. ونعرف عن مسجد هامبورغ الذي أغلق هذا العام بعد أن كان بؤرة لدعاة التطرف. وفي فرنسا 32 مسجدا أصوليا على الأقل في منطقة باريس وحدها. وفي بريطانيا تسيطر جمعة نيو باني المتطرفة على 655 مسجدا، منها 170 في لندن وحدها، كما لهم 17 معهدا دينيا من أصل 26 في بريطانيا. وهكذا. فهل هذه الدول معادية للمسلمين وقلاع فولاذية لا يخترقها مهاجرون مسلمون من كل الجنسيات والعروق؟!!!

لقد تساءلت صحف فرنسية قبل سنوات لماذا لا يستطيع المتظاهرون المسلمون مناقشة الحجة بحجة وتفنيد ما يعتبرونه مسيئا لدينهم؟ لماذا الجواب هو نشر الكراهية والخناجر والأحزمة الناسفة. وأقول: ولماذا ينسى المتطرفون ومن يسيرون وراءهم آية quot; وجادلهم بالتي هي أحسنquot; وكان المقصودون عهد ذاك هم الكفار؟؟

الدول الغربية لا تخلو من سلبيات ومآثم وسيئات، وفيها تيارات وعناصر عنصرية، وتيارات شعبوية تستغل ورقة الإسلام والهجرة- كما ورد في مقالي الأول؛ ولكنها دول ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، وتضمن حقوق المواطن والمقيم، وتعين من يحتاجون للإعانة حقا ماليا وطبيا وسكنا، ولها قوانين ضد العنصرية المكشوفة، وقواعد أدبية كما في حالة الضغط لاستقالة سارازين ووزير إيطالي كان قد أدلى بتصريحات عنصرية في بنغازي. إلا أن هذه الدول دول علمانية وتؤمن بالحرية الفردية لأقصى حد وبالحرية الدينية وحرية المعتقد، بجميع أشكالها ودرجاتها، ولها قيم غرزت وتطورت مع القرون، وعلى كل سكانها، من أهل البلد ومن متجنسين ومقيمين، احترامها وليس محاولة فرض قيم جاؤوا بها من بلدان الأصل. ولذا فإن التطرف والإرهاب الإسلاميين يشكلان خطرا حقيقيا على هذه الديمقراطيات وأهلها وقيمها ومبادئها وقوانينها، وهي لا يمكن أن تسمح بذلك.

ولنتذكر ما قاله الإمام محمد عبده عند زيارته باريس في أوائل القرن الماضي:

quot;جئت باريس، فوجدت إسلاما بلا مسلمين وعدت لأجد مسلمين بلا إسلامquot;- إذ كان يفهم من الدين قيم التعايش والمساواة واحترام الآخر.

إن غض النظر عن جنايات المتطرفين المسلمين في الغرب وعن إساءات فريق كبير من اللاجئين، لا يخدم قضية المسلمين والهجرة في الغرب، بل هو، على العكس، يصب في خدمة التطرف المعاكس، كما بينت في مقالاتي السابقة، فضلا عن أنه يغطي على وجود عشرات الآلاف من المسلمين واللاجئين الآخرين ممن اندمجوا وقدموا، ويقدمون، خدمات كبيرة للمجتمعات الغربية، ومنهم العدد الكبير من الأطباء.

وكما ورد أيضا، فإن القضية الحقيقية هي صراع قيم لا صراع حضارات وتمييز عنصري، وبيننا من يرفضون قيم الغرب وثقافته أصلا، وهذا راح ينعكس حتى في المدارس الغربية أيضا من كره للمدرسة وتزايد للعنف ورفض لكل مادة لا تعجب تلامذة مسلمين وآباءهم؛ وكل هذا ساهم في تدهور مستوى التعليم في أوروبا الغربية، ومنها فرنسا، بالنسبة لدول آسيوية من أمثال كوريا الجنوبية. وهذا ما سوف نعود إليه في المقال التالي.

لقد بينت أنه، قبل توجيه الاتهام للآخر، فإن علينا النظر في عيوبنا نحن، داخل بلداننا وفي الغرب، وكيف نعامل الآخر عندنا، مسيحيا كان أو يهوديا أو شغالات آسيويات! وأية ثقافة هي التي تنفي الشرعية عن العالم!