هل هذا هو العراق الذي كان الوطنيون الواعون يحلمون به بعد نظام صدام؟؟! لا نعتقد.
كان الأمل والحلم هما في أن يسود العدل والحرية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان؛ ونحن اليوم في زمن مصادرة الحريات الفردية، والعدوان على الحرية الدينية، وانتهاك كرامة المرأة، وازدراء الثقافة والفنون، واستشراء الفساد، وقبل كل شيء، في غياب روح المواطنة.
إن الإجراءات التعسفية لمجلس محافظة بغداد ضد نادي الأدباء، [ والتي نزل رعاع الصدر الهائجون للشارع لتأييدها ولترويع المثقفين والنساء المطالبات بفك القيود عنهن]، ليست الأولى من نوعها، ولعلها ليست الأبشع، فقد سبقتها، ولا تزال ترافقها، إجراءات طالبانية في البصرة وواسط والنجف ومعظم مدن الوسط والجنوب- إجراءات ضد الأقليات الدينية والمرأة والفنون والمواسم الشعرية وحتى السيرك. وفي مجال التعليم، تحولت المدرسة لشبه ملحق بالحسينية، قاصدين مساعي تحويل المناهج مذهبيا، وفرض الحجاب حتى على تلميذات الابتدائية. وهذه الوزارة ستكون أكثر تعرضا للنهج الطالباني المطعم بالخمينة لو استوزرها وزير صدري بعد وزيرها الحالي الذي هو من زعماء حزب الدعوة. ويقال إن التعليم العالمي سوف يناط بالشخصية الثانية في الدعوة، السيد علي الأديب، المعروفة روابطه الأكثر وثيقة مع طهران، والذي يشاع أن له هناك مصالح تجارية معينة هناك.
هذا النهج المتطرف، الذي هو مزيج من الخمينية والطالبانية، يعبر عن حقيقة أهداف الأحزاب الدينية التي تحكم العراق، وينزع القناع تدريجيا عن كل التبجحات عن quot; دولة القانونquot; والديمقراطية. وما تجربة خميني ببعيدة عنا حين كان يتظاهر بالديمقراطية وهو في باريس ليعود بعد نجاح الثورة فيفرض نظام الفقيه الشمولي، وليسحق خطوة فخطوة جميع القوى الأخرى التي ساهمت في الثورة، وحتى بعض المقربين منه من أمثال بني صدر. وقد وصفنا، في مناسبة أخرى، هذا النهج المهيمن اليوم في العراق باسم الديمقراطية البرلمانية، وصفناه ب quot;ديمقراطية تعدد الأقنعةquot;، أي استخدام التحايل والمكر والتقية لإخفاء النوايا والأهداف الحقيقية، ومن ثم الشروع بتنفيذها كلما كان ذلك ممكنا، وعلى صعيد محافظة بعد أخرى. وكل ذلك كان يجري، ولا يزال يجري، دون أن تنبري الأحزاب والقوى الوطنية العلمانية وغير الطائفية، عربية وكردستانية، والبرلمانيون غير الطائفيين، إلى الشجب الصريح لتلك التدابير الظلامية، وتأييد احتجاجات وتحركات الأدباء والنساء. فهل هذا هو المأمول؟!
عراق خيبة الآمال وضياع الأحلام هو الذي تسرق فيه نتائج الانتخابات بمختلف الأساليب والحيل؛ هو الذي تهدر فيه مليارات الدولارات وتنهب؛ هو من تسرق دول الجوار مياهه؛ هو من تهمل الحكومة الزراعة والصناعة فيه لحساب الاستيراد من إيران وتركيا وسوريا بعد أن صارت المنتجات العراقية عاجزة عن المنافسة.
عراق اليوم هو العراق المستباح إيرانيا، والمروَّع قاعديا، وكأنما تحول إلى الرجل المريض الذي تتدخل في شؤونه، وعدا إيران، دول الجوار، وعلى الأخص سوريا.
وعراق اليوم يتعرض لمخاطر التقسيم بعنوان الفيدراليات، كما نرى من مساعي محافظة البصرة لتأسيس إقليم خاص بها، وربما كقاعدة، مستقبلا، لتحقيق مشروع محافظات الوسط والجنوب على أساس طائفي محض، وكذلك هناك الترويج لإقليم في الغرب ليكون للسنة، وذلك انسياقا وراء الطرح الخاطئ للقضية العراقية: أي شيعة وكرد وسنة، وليس كقضية عراق ديمقراطي اتحادي، له مركز قوي ومحافظات لها درجة مناسبة من اللامركزية، بجوار إقليم كردستان، الذي له وحده مقومات الإقليم من جغرافيا وتاريخ وتقاليد ولغة وأثنية. ولذا نعتقد أن ما ورد في خطاب السيد رئيس إقليم كردستان عن مساندة قيام أقاليم أخرى في العراق موقف غير موفق أبدا، لأن مقومات تشكيل أقاليم أخرى غير قائمة إلا إذا اعتبرنا المذهب هو الأساس، وهذا مخالف لمبدأ الفيدراليات. وقد سبق ووجهنا في 17 نوفمبر 2006 مذكرة للسيد رئيس الجمهورية بهذا الصدد [ * ]- علما بأننا لا نناقش هنا ما ورد عن حق تقرير المصير لشعب كردستان، ولكن نقول التالي فقط:
إن حق تقرير المصير هو حق طبيعي للشعب الكردي في العراق وللأمة الكردية المجزأة، وهو لا يعني الانفصال بالضرورة، فقد يكون تطبيقه كحكم ذاتي أو فيدرالية، وكذلك كدولة مستقلة. وقد أكد الحزب الديمقراطي الكردستاني أن الخطاب لا يقصد به الانفصال، وأن كردستان العراق تبقى في العراق، غير أن طريقة طرح الموضوع في الخطاب - [ الحديث عن مرحلة بعد مرحلة]- هو الذي أثار بعض التساؤلات والالتباس.
نعم، ليس هذا العراق الذي حلم به الطيبون من الأحياء وشهداؤنا الأماجد. ومادام الولاء للعراق قد تهمش، فكل ما بني على هذا التهميش كان مخيبا للآمال وتفريطا بالأحلام.
[ *- ملحق: ورد في تلك المذكرة ما يلي:
quot; 3- رغم إيماننا بأن الديمقراطية الفيدرالية هي أرقى أنواع الحكم الديمقراطي، ولكن في ظروف العراق الحالية فإن تقسيم القسم العربي إلى فيدراليات، لا يشكل حلا سليما لمشاكله الحالية، بل سيكون بحد ذاته مشكلة كبرى تؤدي إلى تفتيت العراق إلى كانتونات يسهل بلعها من قبل دول الجوار الطامعة بها، ولأن دعاة الفيدرالية في الوسط والجنوب يريدونها على أسس طائفية. فلو تحقق حلمهم في تحقيق الفيدرالية الطائفية، فهذا يعني أنهم سيكرسون الطائفية ومعها الصرعات الدموية بين الطوائف إلى الأبد. وهذه كارثة يجب منعها بأي ثمن. لذلك نرى أن تأييد القيادة الكردية لأقاليم في الوسط والجنوب خطر كبير على كل العراق، وهو ليس من صالح الشعب العراق، وضد مصلحة الشعب الكردي.
quot; 4- نؤكد أن رفضكم للفيدرالية الطائفية في الوسط والجنوب سوف لن يؤثر على الفيدرالية الكردستانية، لأن الأخيرة لها ظروفها القومية والتاريخية الخاصة، ومقررة ومعترف بها من جميع الجهات وحتى من المحافل الدولية، ولا يمكن التراجع عنهاquot;.
نضيف اليوم أن هذا التحليل ينطبق أيضا على فكرة إقليم خاص لغرب العراق باعتبار أكثرية سكانه من السنة.
التعليقات