انزعج صديق مما كتبته عن quot;العثمانيين الجددquot;، مفسرا مقالي بتبرير العملية الإسرائيلية والتهجم على من يدافعون عن الشعب الفلسطيني- قاصدا فريق أردوغان. لكل حقه في أي رأي يحمله، ولكل فهمه لما يكتبه الآخرون. فقد يفهم اثنان مقالا ما بطريقتين. وتفسير ذلك عندي أن هناك من يقرؤون من منطلق قناعات مسبقة قراءة عاطفية، ويرون ما عداها ضلالا، ومن ثم يفسرونه على هذا الأساس. وقد تعرض بعض الكتاب العرب المتميزين مؤخرا لحملة تشهير واتهام لأنهم كتبوا بجرأة وموضوعية في فضح جناية حماس على القضية الفلسطينية، وفضح الحصار السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تفرضه حماس على أهل غزة، وفي التشكيك في أصالة ومصداقية الموقف التركي الجديد. وهذا هو ما أتفق فيه مع هؤلاء الكتاب. فأما إدانة العملية الإسرائيلية، فقد أكدنا مرارا على أنها واجبة ومبررة. وأما أن أزكي حزبا إسلاميا [أردوغان] برنامجه quot; المنائر رماحنا والمساجد ثكناتناquot;، ويتحالف مع إيران لحسابات خاصة، فلا، وألف لا، حتى ولو شتم قادته إسرائيل ليل نهار، وحتى لو ذرفوا الدموع علنا على فلسطين والقدس. وما بين تركيا وإسرائيل من روابط أقوى لحد اليوم من الأزمة الراهنة، ولنر الخطوات التركية القادمة لنعيد القراءة.
ومشكلة من يضيقون من محاولة البعض منا أن يحلل تحليلا عقلانيا هادئا للحدث، وللتحركات التركية الصاخبة، والوضع العام في المنطقة، [ ومنهم من يشتمون الآخرين بعنف]، تناولها أيضا الأستاذ مشاري الذايدي في مقاله quot;لا تفكر في تركياquot; [ الشرق الأوسط 15 حزيران الجاري]. وينتهي مقاله بالقول: quot;أخشى أن يأتي يوم تصبح فيه وظيفة التفكير تهمة لأنها تعكر صفو quot; السائدquot; الصاخب.quot; والذي [ساد] مع حدث السفينة هو: quot;العويل والنحيب ، وشتم إسرائيل وشتم من لم يشتم إسرائيل ..! أقيمت حفلة quot; مطاردة ساحراتquot; في بعض الصحف، ومن قبل بعض الكتاب، والتهمة هي القبض عليك متلبسا بتهمة التفكير والتحليل الهادئ! [ الذايدي]. وكما قال أيضا، فإن الثقافة السائدة عربيا هي quot; ثقافة انفعالية خطابية في الأعم الغالب، وتفعل فينا الكلمات الرنانة الأفاعيلquot; بل، إن البعض يكتب وهو يتمنى لو كان قادرا على غرز خنجر في رقبة مخالفه!
لقد تجاوزت الثمانين، ومررت بعشرات التجارب السياسية الأليمة، وعاصرت تطورات القضية الفلسطينية منذ بداية الصبا في الثلاثينات، وهو ما سبق لي التوقف عنده. وخلال عقود من السنين، رأينا الكميات الكبيرة من المزايدات والنفاق باسم فلسطين، والكثير من الانقلابات والسياسات الدكتاتورية وهدر الأموال باسم فلسطين، وانتهينا لنرى خناجر حماس في قلب القيادة الشرعية، وفصل غزة عن الضفة، وتحويلها لإمارة طالبانية، تابعة سياسيا لإيران وسوريا. وهذه حقائق لا اختلاق. وأنا ممن لا يعتقدون أن إيران أو سوريا حريصتان على القضية الفلسطينية، ولا يمكنني أن أقبل بتسليم راية فلسطين للطامحين من الإسلاميين الأتراك، حلفاء إخوان المسلمين وإيران. كما أن كل التجارب التي مرت على القضية الفلسطينية وشعوب المنطقة قد برهنت على أن طريق الحرب والعنف والصواريخ لا يؤدي للدولة الفلسطينية الحرة، وأن لا مفر من المفاوضات المباشرة لتحقيق قيام الدولة. وسواء شئنا أم أبينا، فإسرائيل دولة قائمة ومعترف بها دوليا، وكل حلم في إزالتها مبني على وهم الأوهام. وإن النص على هذه الحقيقة ليس دفاعا عن إسرائيل، بل تمليه دواعي الواقعية السياسية، والحسابات والاعتبارات الدولية والإقليمية.
نعم، حين أرى زعماء عربا، ومنهم عمرو موسى، يتراكضون لأنقرة مهللين،،وحين تنشر صحف معروفة ما لا يقل عن خمس أو ست مقالات كل يوم تمجيدا لسياسة أردوغان، والدعوة لكي تزيد تركيا من ابتعادها عن الغرب، فإنني أعتبر ذلك دليل ضعف الدول العربية وتهميش دورها في المنطقة، ودليل انطلاق العديد من كتاب اليوم، لا من التحليل الهادئ والموضوعي، من بل مجرد عقدة كراهية إسرائيل بحيث تنسيهم أن هناك أعداء شرسين آخرين ndash; كإيران - بجنب الدولة العبرية. ويؤلمني أن ترتفع في غزة أعلام تركيا بينما يستمر عداء الحمساويين لفتح والقيادة الشرعية المعترف بها عربيا ودوليا. كما يؤلمني صمت الجامعة العربية عن النشاط الإيراني النووي، وعن تدخل إيران في شؤون المنطقة، وكأن شتم إسرائيل واحتضان عمرو موسى للسيد هنية يغنيان عن واجب فضح النشاطات الإيرانية التخريبية والتحدي الإيراني للمجتمع الدولي، أو عن نقد الانحياز التركي لمواقف إيران. فهل هو جهل؟! أم هو خوف من الموقف الصريح؟!
هذا بعض ما أنا مؤمن به، وأنا احترم من يخالفونني الرأي، لاسيما والمشكلات متشابكة والأحداث تزدحم. كذلك ما يخص رأيي في الوضع العراقي، إذ ثمة آخرون يخالفونني الرأي. وإذا كنا نزعل من كل صديق يبدي رأيا مخالفا، فبئس تلك الصداقة وتعسا لها، وإذا اتهمنا من يخالفوننا الرأي وأدنّاهم، فهذا انتقاص منا لأنفسنا لا لهم. وقديما قال فولتير بما مؤداه : quot;هذا رأيي وإنني مستعد للكفاح من أجل حقك في التعبير عن رأيكquot;.
شخصيا، وبعد التجارب القاسية والعمر الطويل، لست مستعدا للكتابة لمجرد رضاء صديق أو غريب، أو لتجنب تحامل أو اتهام، ولست مستعدا للدخول في سوق المزايدات والرطانة الغوغائية. وكلماتي من الضمير وعن قناعة، وهذه قراءتي للأحداث وللآخرين قراءاتهم. وهذا ما يسعدني وإن أغضب غيري، ولو كان صديقا. كما أدين بشدة حملة بعض الأقلام اليوم على كتاب عرب وقفوا دوما مع الشعبين الفلسطيني والعراقي- حملة طالت هذه الأيام كتابا أمثال الدكتور شاكر النابلسي والأستاذ عبد الرحمن الراشد وأمثالهما، من جانب أقلام عراقية وعربية