سهرت في ليلة العام الجديد مع حفلة موسيقية كبرى متلفزة في أستراليا، أحياها الموسيقار الهولندي النابغة، quot; أندريه دريوquot;. آلاف المقاعد والمشاهدين المستمتعين في ساحة واسعة مسقفة. قطع موسيقية كلاسيكية وحديثة. مغنيات ومغنون. وعدد كبير من كبار السن الحاضرين يرقصون في نشوة، متذكرين أيام الشباب. كنت غارقا في لذة السماع والنظر حين داهمتني فجأة فكرة سوداء مرعبة: ماذا لو كان بين الحاضرين إرهابي إسلامي مندس، وفجر نفسه فجأة؟! كم من ضحايا أبرياء سيسقطون وهم في نشوة البهجة والفرحة؟ كم كمية من الدماء سوف تسيح في الساحة التي كانت للتو مليئة بالأفراح؟! فكرة مرعبة حقا، ولكنها من وحى أحداث اليوم في كل مكان. وسوف يقال حينئذ إن المسئولية تقع على أستراليا لأنها بعثت جنودا لدول مسلمة، أو على هولندة التي ينتمي لها الموسيقار لأنها بلد فان كوخ، السينمائي، الذي اغتاله إرهابي quot;جهاديquot; أثيم بتهمة أن الضحية كافر وضد الإسلام.
ها هو أحد كتاب صحيفة quot;الشرق الأوسطquot; يعيد لنا، في مقال نشر للتو، نفس الأسطوانات الببغاوية المشروطة في تفسير الإرهاب الإسلامي. عنوان مقاله: quot; إنه الحيف الأميركي.quot; فالإرهابي النيجيري المسلم، الذي أراد تفجير أكثر من 200 راكب طيارة، وجريمة نضال حسن، والصومالي الذي همّ للتو بقتل رسام دانيماركي، وفرق القاعدة التي تجتاح اليمن مع الحوثيين وتجتاح الصومال وتفنك بالعراقيين، وتفجر 80 مسلما باكستانيا في ملعب كرة، و، و، و،- كل هذه الجرائم الشنعاء الباغية تغذت على مناخ quot;خلقته أميركاquot; بسبب quot;سياستها الظالمة في أفغانستان والعراق والصومال وأبو غريب وفلسطين...quot; هكذا بالتمام.
أما أول تعليق على مقال نشره بالمناسبة الأستاذ أحمد أبو مطر، فيقول إن 11 سبتمبر من صنع السي. آي. أي.، مستشهدا بفتوى للكاتب الإسلامي فهمي هويدي، ومن صنع الصرب، مستشهدا بفتوى لمحمد حسنين هيكل، أستاذ الحكايات الصحفية الفنطازية،[ انظروا التناقض بين النظريتين]- هذا بينما تحتفل القاعدة باستمرار، وبلا مواربة، بما تعوه quot;غزوة نيويوركquot;.
الموضوع قديم جديد، وقد تم نشر مئات المقالات عنه على مدى العقدين الماضيين، ومع ذلك، فالأحداث الجديدة، والتفسيرات العمياء التي نقرأ عنها، تبرر العودة مرارا ومرارا للتأكيد على نفس الأفكار التي يفسر بها الكتاب العلمانيون وكل كاتب منصف ومتنور هذه الأحداث وما قبلها.
نسأل: هل اعتقد أوباما حقا أن سياسات بوش غذت الإرهاب quot;الجهاديquot;، وهو إرهاب نفذ جرائمه قبل بوش وفي بلدان مسلمة كالجزائر ومصر، وحتى في السعودية، بل في مكة نفسها؟ عمليات الإرهاب الإسلامي اشتعلت منذ الثمانينات، فالإرهابيون الإيرانيون اغتالوا في أوروبا عددا من معارضي النظام الإسلامي، ومنهم رئيس وزراء سابق، شابور بختيار والزعيم الكردي عبد الرحمن قاسملو، وquot;الجهاديونquot; الجزائريون فجروا القطار الأرضي بباريس عام 1995، وكانوا يستعدون لصنع سلاح كيميائي، وخططوا لتفجير كاتدرائية ستراسبورغ، والشريط طويل، وقائمة الضحايا أطول.
قبل محاولة الإرهابي النيجيري ضد الطائرة الأميركية، كانت عملية الإرهابي الأميركي الفلسطيني، نضال حسن، بقتل وجرح العشرات من زملائه العسكريين في القاعدة العسكرية، وكان القصور الأمني قد منع كشف أمره قبل الجريمة. وقبل نضال حسن، استطاعت الأجهزة الأمنية الأميركية، لحسن الحظ، كشف ومنع قائمة من العمليات المخطط لها. وقد نقل تقرير إيلاف في 24 ديسمبر المنصرم معلومات أميركية موثقة تقول:
quot; لقد تم الكشف عن تهديدات إرهابية خلال 2009 هي الأكبر منذ وقوع أحداث 11 سبتمبر . فهناك على ما يبدو نشاط إرهابي متزايد في أميركا خلال العام الجاري.quot; ويعدد التقرير 12 عملية مكتشفة، منها اعتراف مواطن أميركي أسلم بتعاونه مع القاعدة في التآمر لنسف قطار في محطة بنسلفانيا. والمدعو عبد الحكيم محمد، المتحول للإسلام، قام بقتل جندي وجرح آخر في هجومه على مركز تجنيد عسكري في ليتل روك. ومايكل فينتون المتحول للإسلام حاول نسف مبنى فيدرالي في سبرينغفيلد. واعتقل رجل أعمال اسمه هيدلي من شيكاغو بتهمة التآمر لشن هجوم على صحيفة دانيماركية متهمة بأنها ضد الإسلام، كما وجهت له تهمة التحريض على شن هجمات مومباي عام 2008 .
قائمة تمتد، وهي دليل على نجاح الأجهزة الأمنية الأميركية، التي ما كف أوباما وحزبه ودعايته من الهجوم عليها واتهامها بالخروج عن الأخلاقية الأميركية لمجرد أن إرهابيين زعموا تعرضهم للتعذيب ولكن بلا دليل، ما عدا حالة زعيم جرائم 11 سبتمبر، خالد الشيخ، الذي تعرض لأسلوب الإيهام بالغرق. ولم ننس تلك المطالبات بمحاكمة مسئولين في الأجهزة الأمنية، وكشف أسرار استفاد منها الإرهابيون، هذا عدا عن إطلاق سراح عشرات من غوانتينامو عاد منهم العديد للنشاط الإرهابي. وقد سبق لنا تناول هذه الجوانب من سياسة الإدارة الأميركية الجديدة تجاه الإرهاب. وإذا كان صحيحا نقد أوباما لعدم يقظة أجهزة محاربة الإرهاب في قضية الإرهابي النيجيري، ومن قبله الإرهابي نضال حسن، فإن النقد الأكبر يجب توجيهه لسياسته نفسها، وبهدلته لتلك الأجهزة. وكنا قد نقلنا عن تصريحات آمر غوانتينامو، والتي تحدث فيها عن ضعف معنويات الضباط في المعتقل بسبب ما يواجهونه من اتهامات باطلة.
إن كل الوقائع تدل على أن الإرهابيين quot;الجهاديينquot; ينشطون داخل أميركا نفسها، إلى جانب عملياتهم الدموية في العالم الإسلامي، وعلى أن كل خطب أوباما عن الإسلام، وكل حملاته على سياسات بوش، لم تقنع المتطرفين والإرهابيين وفقهاء التطرف والإرهاب، خارج أميركا وفي داخلها أيضا. فالقضية هي أولا قضية فكر quot;كهوفيquot; مظلم، يبرر قتل الآخر quot;الكافرquot;، أو قتل المسلم الآخر، باسم الجهاد، متذرعا بمسائل سياسية تتخذ ذريعة لشن هجمات دموية في السعي لبسط ظلام التخلف على العالم وتدمير الحضارة وقيمها، وللوصول إلى السلطة بلدا بعد بلد.
لقد غازل أوباما الدول الإسلامية، ولكنه لم ينتقد، كما ينبغي، دعاة التطرف المنتشرين في أرجاء العالم الإسلامي. وهاجم قرار فرنسا بمنع الحجاب في المدارس العامة، وجاء بمستشارة مسلمة محجبة تقول للعالم:quot; إني أنا أمثل المرأة المسلمةquot;. ولم يرفع صوته لنصرة لبنى عبد العزيز السودانية، بل، على العكس، راح يجامل نظام البشير، وينكر حملة الإبادة في دارفور.
إن الحقيقة هي أن للتطرف والإرهاب دعاة متحمسين في عقر الدول الإسلامية: ولهما فقهاء ينتشرون حتى في الغرب نفسه، دون أن يجدوا من القضاء ما يردعهم عن نشر السموم، وحالة القضاء البريطاني هي الأكثر دلالة ووضوحا. بل إن دعاة فقه التطرف والتكفير يجدون في بعض دول الغرب من التدليل ما يذهل، ومنهم أبو قتادة قبل اعتقاله، وأبو حمزة .أوباما لم يفهم أن الإسلام السياسي، بكل فروعه واتجاهاته ومذاهبه، لا يرى في الغرب غير ساحة الكفر، ولا يرى حضارة الغرب الحديثة غير تهديد للإسلام نفسه، وهو لا يؤمن بالديمقراطية حتى لو شارك في الانتخابات. وقد نشر الأستاذ طارق الحميد مقالا عنوانه quot;فعلا أمر محزنquot;، تعليقا على عملية تقتيل لاعبي الكرة والجمهور في ملعب باكستاني، وكيف أن جريمة بهذه الهمجية لم تحرك ضمائر الإعلام العربي والإسلامي، والفقهاء من ذوي الخطب الهائجة. فهؤلاء يثيرون المعارك حول مأذنة وحول النقاب لأنها موجهة ضد دول غربية، ولكنهم يصمتون عن تفجير المسلمين بالجملة لأن الفاعل مسلم وهم مع هواه.
يقول صحفي أميركي في quot;الواشنطن بوستquot; عن quot;الأقلية الجهاديةquot; التي تقترف الجرائم المرعبة في كل مكان، والتي تؤمن بأن قتل غير المسلم حلال وأن لا دين غير الإسلام- يقول عنهم:
quot; الشيء المخيف حقيقة هو أنه يبدو أن هذه الأقلية الجهادية العنيفة تتمتع quot;بشرعيةquot; تامة داخل العالم الإسلامي في الوقت الحالي. ولا يجرؤ سوى قليل من القيادات السياسية والدينية على الحديث ضدهم على الملأquot;، [الشرق الأوسط في 24 ديسمبر المنصرم]. ويرى الكاتب أن هناك قيادات عربية حاكمة غير دينية تغض الطرف عن هؤلاء بأمل أن لا يقترفوا الجرائم في بلدانهم، وإذن فليعملوا ما يريدون خارج الدول التي يحكمونها!!
ويقول الكاتب اللبناني quot;غسان شربلquot; في صحيفة quot;الحياةquot;عن حالة العرب ما بين عامين، وتحت عنوان quot; إننا نختنقquot;:
quot; قدرتنا على ارتكاب المذابح تفوق قدرتنا على ارتكاب الأسئلة. قدرتنا على النحر والانتحار تفوق قدرتنا على التصالح والتفاعل والتنافس. قدرتنا على الاستسلام للمهرجين نفوق قدرتنا على التبصر والتعقل والاختيار. قدرتنا على اعتناق الكهوف تفوق قدرتنا على فتح الآفاق.quot; وإنه لتقييم منصف، وهو ينطبق على العالم الإسلامي كله. فالإرهاب المهيمن اليوم على الساحة الدولية كلها هو إرهاب يقترفه مسلمون أو متحول للإسلام، ونسبة كبرى منهم عرب، ومن قال إن الإرهاب لا دين له يقول عشر الحقيقة. نعم هناك إرهابيون في بعض بلدان العالم والقارات، وهم غير مسلمين ولهم قضايا سياسية خاصة اختاروا العنف لتحقيقها. أما الإرهاب الذي يبسط خطره على العالم، فهو ما يدعى بالإرهاب quot;الجهاديquot;، ويخطط له مسلمون وينفذه مسلمون، والعالم يرى هذا كله، فتنشأ بين مواطنيه مشاعر هواجس الخوف والقلق من المسلمين ومن الإسلام نفسه لأن فرق quot;الجهادquot; الانتحارية تقترف الجرائم وهي تحمل القرآن باليد وتدعي أنها في خدمة الإسلام.
إن بوش كان على حق في رفع شعار quot;الحرب على الإرهابquot; لأن الإرهاب هو في حرب على أميركا والغرب وعلى شعوب دول عربية وإسلامية نفسها، كأفغانستان وباكستان واليمن والصومال والعراق ودول أخرى. ولعل حملات القاعدة على اليمن والصومال، وعمليات نضال حسن وعمر عبد المطلب النيجيري ستسهم في إزاحة الضباب الذي يلف رؤية أوباما لقضايا الإرهاب وسبل مكافحتها، وهي قضايا تخص قوى السلام والاعتدال والتحضر في العالم كله، وإنها لحرب عادلة، ولكل فيها دور و مسئولية.
[ إضافة: بعد كتابة هذا المقال قرأنا خبر قرار أصحاب اللحى المتطرفين في مدينة بريطانية بتنظيم مظاهرات quot;سلميةquot; باسم التضامن مع ضحايا القوات البريطانية في أفغانستان. أحد زعماء هؤلاء المتطرفين الإسلاميين يقف ليقول أمام الشاشة الصغيرة بلا خجل إن الجنود البريطانيين هم كالنازيين. ولحد كتابة هذه الإضافة لم تتخذ الحكومة البريطانية بعد قرارا بمنع أو إجازة مظاهرة بهذا الحجم من استفزاز مشاعر الشعب البريطاني.]
التعليقات