أشرنا في مقال سابق إلى نقاط ضعف الديمقراطيات الغربية في التعامل مع القوى والأنظمة الشمولية، مما يجعلها مرتبكة في غالب الأحيان، ومنقسمة على نفسها، ومكررة أخطاءها القديمة في عهود الحرب الباردة، حين كانت تتراجع، وتقدم التنازلات للكتلة السوفيتية، وتخضع لثقل الدعايات المعادية، المنطلقة سواء من اليسار واليمين المحليين، أو من وسائل إعلام الكتلة الشرقية - السوفيتية.

لقد كان أمن هذه الدول بالذات يتهدد أحيانا بعمليات منظمات إرهابية، كانت تجد عون المال والسلاح من دول كبلغاريا، وألمانيا الشرقية، وهذا ما حدث في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا وغيرها. ونذكر مثلا عمليات منظمات مثل بايدر باينهوف، والفيالق الحمر، ومنظمة الباسك في إسبانيا، وكدعم عمليات الاغتيال وخطف الطائرات، التي كانت تنفذها العناصر الفلسطينية المتطرفة.]

إن هذه الأنظمة لا يصعب ابتزازها خارجيا، أو اختراقها داخليا، وذلك بحكم كونها أنظمة ديمقراطية لا أيديولوجية، وتسمح بأوسع الحريات، وتستمع للرأي العام الداخلي، وتأخذ بالحسبان مواقف المعارضة الداخلية.

إن القوى والأنظمة الشمولية هي التي عادة تبادر وتهاجم، فتقابل ترددا غربيا، وحتى تقديم التنازلات لها باسم التهدئة، كما فعل تشمبرلن مع هتلر قبيل الحرب العالمية الثانية. وإن القوى والأنظمة الشمولية هي التي لا تلتزم بالاتفاقات والقرارات المتخذة، التي سبق لها التوقيع عليها، دوليا، أو إقليميا، أو ثنائيا.

لقد وقعت في الأسابيع القليلة الأخيرة أحداث تبرر هذا التحليل، وفي المقدمة أحداث ومواقف إيران واستفزازات كوريا الشمالية. ومن ذلك أيضا تحدي نظام البشير للمحكمة الجنائية الدولية، واعتباره الحديث عن عملية إبادة في دارفور quot;صناعة خارجيةquot;.

نظام الفقيه - باسداران قد خرج للعالم بوجهه الدموي البشع، وأراق دماء المتظاهرين، وراح النظام يتحدى واشنطن ودول الغرب كافة ومجلس الأمن حول النووي باعتباره موضوعا quot;مغلقا ولا نقاش حوله. وتتالت الحملات ضد الصحفيين الغربيين، واعتقل رعايا ودبلوماسيون غربيون، في محاولة يائسة لاتهام الغرب بتفجير موجة الاحتجاج الشعبية الداخلية.

بيونغ يانغ عادت لإطلاق عدة صواريخ جديدة في يوم 4 الجاري، وهو يوم العيد الوطني الأميركي، وذلك في تحد صارخ لإدارة اوباما.

والغرب؟؟ لم يتخذ الاتحاد الأوروبي تجاه اعتقال الدبلوماسيين البريطانيين في طهران غير إجراء سحب السفراء، ليس إلا، وبرغم كل مواقف نظام طهران وممارساته، وخصوصا خطره النووي، فلا يزال أوباما متشبثا بوهم الحوار، وإمكان إقناع ذلك النظام بالتراجع عن النووي، وبانتهاج سياسة عقلانية مسالمة، وبعدم التدخل في شؤون الدول المجاورة. وقد علق الصحفي الأميركي تشارلز كروتمر في مقال له للتو على سياسة اوباما تجاه طهران بالحديث عن quot;عبثية الحسابات الجيو- سياسية في التعامل مع إيران، لكونها غير واردة أصلا، وهي غير واقعية، فلا إيران تتراجع عن النووي، ولا هي تكف عن التدخل في شؤون الدول الأخرى، ناهيكم عن عدم واقعية تصور رغبتها في مساعدة واشنطن في أفغانستان. وينتقد الكاتب أيضا موقف اوباما من انتفاضة الجماهير الإيرانية، وما تتعرض له من قمع وسفك دماء وحملات اعتقال، ويسأل:quot;أين هو رئيسنا؟ إنه يخاف من دس أنفه، يخاف اتخاذ موقف بين من quot;يكسرون الرؤوس ويفرضون القيود على الناسquot;، وبين المناضلين من أجل الحرية. quot;هذا هو ما يصدر عن رئيس يتخيل نفسه الشخص الذي سيعيد إحياء القيم الأميركية في العالم.quot; [ ترجمة المقال في صحيفة quot;الشرق الأوسطquot; ليوم 2 تموز 2009]

يقول المفكر الفرنسي الراحل ريفيل إن من الغباء وقصر النظر عدم استيعاب الظروف الهامة الجديدة، ووجوب تكييف السياسات معها؛ ولكن من قصر النظر المضاعف أن تقع تجارب سياسية مماثلة لما حدث في الماضي، تجارب قدمت الدروس، ولكن نسيان تلك الدروس اليوم، وتكرار الخطأ. وفيما يخص إيران، فالتجارب الماضية قريبة جدا، بل وحاضرة متكررة، ونقصد كل المساعي والمحاولات والقارات الدولية حول النووي الإيراني منذ 2002، كما نقصد الواقع البادي للعيان عن تدخل إيران الواسع في العراق ولبنان وغزة واليمن، والبحرين، وحتى في الصومال، المهددة اليوم بالانهيار لصالح قوى الإرهاب الإسلامي. نضيف هذه العلاقات الحميمة مع قطر، التي تفتح منافذ جديدة للتدخل في الخليج.

وبيونغ يان؟ إنها تستفز استفزازات خطيرة من يوم لآخر، دون أن نرى حتى اليوم غير بعض العقوبات الجزئية، التي تتحداها كوريا الشمالية بكل عنجهية، رغم أن هناك احتمالا قويا باستعدادها لتسليم النووي للقاعدة نفسها، فضلا عن دعم النظام الدموي في بورما والنظام الإيراني.

السياسات المترددة والأفلاطونية لأوباما، واختلاف الحسابات والمواقف داخل الاتحاد الأوروبي، تتحمل جزءا كبيرا من مسئولية استمرار التحدي الإيراني، برغم أن النظام بات متخلخلا بعد الانتفاضة، وكذلك من مسئولية تصاعد غطرسة كوريا الشمالية. نقول تتحمل quot;جزءا كبيراquot; من المسئولية، إذ ليست وحدها المسئولة، فهناك مواقف روسيا والصين، في الميل لإيران والعلاقات مع بيونغ يان.

إن هذه المواقف الغربية، والأميركية خاصة، تتجلى أيضا في الموقف من حماس، الذي قام كارتر بإعطائها تزكية سياسية بزيارته لغزة، بينما تعمل على تعطيل كل مصالحة فلسطينية ndash; فلسطينية، بل وتتآمر على حياة أبو مازن. كما هناك تعنت البشير ونظامه، فالسيناتور الأميركي الديمقراطي جون كيري، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، يتصل بأقطاب النظام السوداني الشمولي، وقد لمح لهم عن احتمال إلغاء العقوبات المفروضة على النظام، وكذالك وعد برفع اسم السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب. وهنا، في قضية دارفور، تلتقي مواقف الدول الإفريقية بهذه المواقف الأميركية الجديدة، فقد أعلنت تلك الدول تجميد علاقتها بالمحكمة الجزائية الدولية.

يقول الدكتور علي بحر الدين دينار، المدير المشارك في جامعة بنسلفانيا لمركز الدراسات الأفريقية، إن التغيير في سياسة الرئيس أوباما نحو دارفور قد quot;شكل مفاجأة حقيقية للناشطين في الشأن الدارفوريquot;، وقال إن هذا التغيير يتسق لحد كبير مع سياسات اوباما الرامية quot;إلى فتح صفحة جديدة في تعاطي السياسة الدوليةquot;، مضيفا: quot; إن هذه النظرة الإجمالية، بوضع كل الدول على قدم المساواة، أمر خاطئ، خاصة في التعامل مع أنظمة قهرية، لا هم لها إلا إهانة شعوبها، وإذلال مواطنيها.quot; ويرتبط بهذه المواقف، تشكيك أحاديث ساسة أميركيين نافذين بوجود تطهير عرقي في دارفور. وكما يقول علي بحر الدين أيضا، quot;نجد الجنرال غريشن، مبعوث أوباما للسودان، مفتونا للغاية بإمكانية سلام حقيقي في السودان. وهذه نظرة خاطئة وخطيرة، وقد سبقه في الزعم ذاته كثيرون.quot;

أجل، إن الحديث عن quot;الشراكةquot;، التي كرر أوباما ذكرها في خطاب القاهرة، يبقى غامضا مطاطا، بل وخطرا، ما لم يجر تحديد وتوضيح مدلول هذه الشراكة، ومع أية دول، وبأية شروط؟ فهل تريد الولايات المتحدة مثلا التعامل مع كل الدول الإسلامية من منظور هذه quot;الشراكةquot;، وعلى قدم المساواة بينها، الشراكة التي تفترض الحقوق المتساوية؟؟ أي، هل هذه الشراكة تنطبق أيضا على التعامل مع أنظمة القهر الدموية الشمولية؟!!

إن شعار الشراكة كرره الرئيس الأميركي من قبل في قمة دول أميركا اللاتينية، مما جعل بعض الصحفيين الأميركيين ينتقدون الخلط بين الأنظمة، بدلا من الإعلان بأن النظرة تختلف من دولة لأخرى، لا وضع الجميع في سلة واحدة.