أثار مقالي عن الهجمة على معسكر أشرف ما يشبه عاصفة من التعليقات، انتقلت لصحف إلكترونية أخرى، خصوصا بعد أن نشر الدكتور عبد الخالق حسين مقالا عن الموضوع نفسه، منتقداً، وداعيا لحل تفاهمي بإشراف دولي.
إنني من المؤمنين، وبعد تجارب سياسية قاسية وطويلة جدا، بأن النقد السياسي الموضوعي والصريح للأخطاء، وأيا كانت الجهة السياسية المخطئة، هو واجب وطني من الدرجة الأولى، ومثل ذلك يكون واجبا تأييد أي عمل إيجابي أو تصريح دقيق، يصدران حتى عن سياسي أو حكومة لا نرتاح لهما. وقد سبق أن أشرت إلى سلطان وهيمنة الموقف السلبي في ثقافتنا السياسية منذ العهد الملكي، حيث كنا نعارض أية خطوة أو إجراء تتخذهما حكومات لا تعجبنا، وحتى لو كانا لمصلحة الشعب والبلد.
لقد أيدنا السيد المالكي، قبل وخلال حملته الانتخابية الأخيرة، لرفعه شعارات مدنية، وكذلك حملته على الطائفية ونظام المحاصصة، وأيدنا موقفه حول الصلاحيات، مشيرين إلى تجارب الدول الديمقراطية الاتحادية - فهناك تتمركز شؤون الخارجية والدفاع والثروات الطبيعية في أيدي العاصمة الاتحادية، وطبعا هي مراكز ديمقراطية حتى النخاع، وليست مراكز تفرد أشخاص.
في الوقت نفسه، قد انتقدنا، وننقد، مجاراة حكومة المالكي لإيران في الصغيرة والكبيرة، وتضييقها على القوات الأميركية، وعدم تطهير جهازي الجيش والشرطة، والجفاء تجاه مجالس الصحوات وعدم تنفيذ الوعود المعطاة لها حول الوظائف. وانتقدنا عدم جدية مكافحة الفساد، الذي دخل صفوف القوات المسلحة أيضا، وآخر فصوله انكشاف قيام ضباط من حرس السيد نائب الرئيس بعملية السطو على مصرف في بغداد، وسلب سبعة ملايين دولار، وما رافق ذلك من قتل ثمانية من الشرط الحراس على المصرف. ومعلوم أن وزارة الدفاع هي التي تعين الضباط، ولكن العدد الأكبر منهم من مليشيات بدر التابعة للمجلس الأعلى، مثلما يمتلأ سلك الشرطة خاصة بأفراد بدر وجيش المهدي. وقد سبق أيضا أن صرحت مصادر عسكرية أميركية بأن عددا غير قليل من الضباط بمراتب معينة يستلمون رواتب بأسماء آلاف من جنود وهميين.
ننتقد أيضا، وبقوة، تهاون الحكومة في موضوع المياه، خصوصا في الموقف من إيران، التي جففت لحد اليوم 42 نهرا كانت تصب في العراق، ومنها نهر القارون الذي كان يصب في شط العرب، المهدد بالنضوب تدريجيا. واليوم تقوم الحكومة بفرض الرقابة على المطبوعات وعلى الانترنيت بحجة مكافحة الدعايات الطائفية، ولا ندري من يقرر ويضع المعايير والموازين، وما الغرض الحقيقي من وراء هذه التدابير التعسفية، خاصة والطائفية لا تكافح هكذا.
لا نريد هنا القيام بمسح السلبيات والإيجابيات، بل محور المقال هو ردود فعل العديد من المثقفين العراقيين، [ربما قليل منهم غير عراقيين!!؟]، على المقالين ماري الذكر، ومنها تعقيبات بأسماء مستعارة، ولا ندري سبب التخفي لو كان الكاتب على حق وذا مصداقية!

ما هي المسألة في الحقيقة؟؟
القضية هي أن معسكر أشرف يضم حوالي 3500 لاجئ سياسي إيراني، من نساء ورجال، هم بلا سلاح، ومطوقون من كل جانب، ومنعت عنهم الزيارات، وكانوا تحت رقابة وحماية القوات الأميركية. وكما قال سياسي عراقي معروف، إنه سجن أكثر منه مدينة، ولم تصدر عن أفراده جريمة تستحق النفير العسكري المهوّل، وقد تعهد المالكي للقوات الأميركية بحماية اللاجئين قبل انسحابها من الإشراف على المعسكر. فهل كان هناك من مبرر معقول لهذه الحملة الهمجية الوحشية، التي لم تتورع فيها المصفحات عن سحق البشر؟ وهل فرض الأمن، حيث لا حاجة لفرضه، يعني استدعاء عناصر ميليشيا بدر وهم بأزياء البوليس- تلك المليشيات التي هي من تربية الباسداران وفيلق القدس الإيراني؟؟ وكيف أمكن ضمان الأمن حين كانت القوات الأميركية هي المشرفة على المعسكر، ثم ألم يعد الأمن مضمونا بغير حرب دموية عنجهية رعناء!!
لقد عبرت كثيرة من التعقيبات على مقالي وعلى مقال الدكتور عبد الخالق حسين، المنشور في موقعه الخاص والمواقع العراقية الأخرى، عن تفهم تام للموضوع، أي انتقاد الإجراءات الحكومية، والمطالبة بحلول سلمية تتفق مع المواثيق والقوانين الدولية، وبالتفاهم مع الولايات المتحدة والأمم المتحدة ومنظمة اللاجئين الدولية. أما كثرة من تعليقات أخرى، فراحت quot;شاطي باطيquot; على حد تعبير العراقيين، أي خبط عشواء. راحت تخلط الأمور وتستخدم المغالطات، وتلجأ للتشهير الشخصي كدليل على الإفلاس الفكري والسياسي والأخلاقي.

لقد أثار أصحاب هذه التعليقات موضوع مشاركة مجاهدي خلق في قمع انتفاضة 1991. فنقول إن هناك شهادات حقا ولا توجد وثائق دامغة ولا نعرف بالدقة ما حدث. ولكن من المعروف أنهم شاركوا في الحرب العراقية ndash; الإيرانية مع الجانب العراقي ضد بلدهم بذريعة معارضة نظام خميني، وهو موقف خاطئ تماما، إذ لا يمكن اللجوء إلى نظام شمولي دموي باسم معارضة نظام شمولي دموي آخر. خطأ quot;مجاهدي خلقquot; هذا يقابله خطأ الأحزاب الشيعية العراقية التي حاربت الجيش العراقي مع إيران، وسمحت لمليشياتها المشكلة في إيران أن تقاتل جنودنا ومعظمهم من كادحي الشيعة، وينطبق هذا أيضا على الأحزاب العلمانية التي اتخذت الموقف نفسه باسم معارضة صدام. هنا أيضا التجأت هذه الأطراف من موقع المعارضة لنظام صدام الدموي إلى نظام دموي آخر هو فوق ذلك ذو أطماع معروفة في العراق ويرفع شعار quot;تصدير الثورة الإسلامية.quot;
مهما يكن، إن هذه هي صفحات مضت، وسوف يأتي يوم هادئ وآمن وديمقراطي لتقييم تلك الصفحات من تاريخنا بموضوعية بدلا من السماح quot;للمنتصرينquot; بتسجيل ما يريدون! نعم، هذا لم يكن موضوعنا، ولا أرى أن هذا وقت مراجعة صفحات مثيرة قد تؤجج الهواجس والضغائن في عراق غير آمن مهدد كل يوم بتفجيرات القاعدة والصداميين، وعمليات فروع جيش المهدي في البصرة والجنوب المتخفية وراء أسماء مختلفة، وفي عراق تمزقه خصومات اليوم وخلافاته حول مسائل كثيرة منها الصلاحيات وتوزيع النفط وغيرهما. ونقول إنه مهما قيل عن مواقف مجاهدي خلق السابقة، فذلك لا يبرر انتهاك حكومة المالكي لوعودها وتعهداتها الرسمية، والخروج عن الاتفاقيات والمعاهدات الدولية. وقد جاء في بعض التعقيبات في المواقع العراقية أن بعض المختطفين من المعسكر قد نقلوا لبغداد حيث يقوم ضباط من فيلق القدس ووزارة المخابرات الإيرانية باستجوابهم. المعقب لم يورد دليلا محسوسا، ونأمل أن ترد الحكومة على مثل هذه الرواية، التي نتمنى عدم صحتها.
وهكذا، فإن انتقاد عملية quot;الفتح المبين!!quot; في أشرف هو بدافع المسؤولية الوطنية، وليس تحاملا على السيد المالكي شخصيا كما يدعون، ونعيد مرة بعد أخرى أن نظام quot;ولاية الفقيهquot; يقف في مقدمة أعداء شعبنا وأمنه، وليس من صالح العراق الاستمرار في مجاراة هذا النظام المتخلف الغاشم والذي يعيش خارج الزمن، والذي اهتزت مصداقية وليّه الفقيه في الأحداث الأخيرة، وهو اهتزاز سوف يستمر رغم تواصل لجوء النظام للقمع الوحشي ضد المعارضين، والشباب منهم خاصة.

ملحق:
أثار أحدهم مقالا قديما لي عن غازات حلبجة واتهام إيران بالقصف الغازي. الصحيح أنني كنت أستعرض تقريرا أميركيا رسميا سريا نشر في صحيفة (نيويورك تايمز) في حينه، في أوائل 1990، وإذ كان قد بدأ التوتر الدولي مع صدام بسبب تهديده بمحو إسرائيل. كان التقرير يعدد نوع الأسلحة الغازية لدى صدام وإيران، وانتهى للاستنتاج بأن نوع الغاز الذي أصاب حلبجة كان إيرانياً لتصور القوات الإيرانية بأن الجيش العراقي كان في المدينة. هذا تقرير لم أدبجه بل أشرت له، وقد أثرت أمره قبل سنوات مع الأستاذ جلال طالباني في باريس، قبل أن يتبوأ وبجدارة تامة مركز رئيس الجمهورية. كنا في دعوة غداء مع بعض رفاقه، فبين وأكد لي أن نوع الغاز كان عراقيا، فاقتنعت بكلامه وكلام زملائه. وهذا ما كان. ونضيف أنه، من قبل ذلك، كان الزعيم الكردي الإيراني اللامع، عبد الرحمن قاسملو، [اغتالته عناصر فيلق القدس في فينا في عملية فخ غادرة]، قد صرح للصحافة بأن النظام الإيراني استعمل الغازات ضد أكراد إيران. وهذا أيضا كان هكذا- والله العليم!