التشكيك في اتفاق طهران النووي الثلاثي لا ينطلق من الفراغ، وليس من منطلق التحامل الأعمى. إنه قائم على أساس تجربة الوكالة الدولية والمجتمع الدولي مع إيران منذ 2002، وخصوصا منذ 2006. والتجربة تحدثنا طويلا عن أساليب المناورة والتضليل والخداع التي يعرف بها نظام الفقيه، بكافة أطياف قواه، فالجميع مصممون على إنتاج القنبلة النووية، كدلالة قوة إقليمية، وكسلاح ابتزاز ضد دول الخليج بوجه خاص.
الدس الإيراني في الاتفاق ناجم أولا عن غموضه، فهو جزء من اللعبة الإيرانية بمشاركة تركيا [أردوغان- أوغلو] وبرازيل [لولو]، وكلا الدولتين تبحثان عن مكان القوة الدولية الفاعلة. وتركيا تسعى أيضا لتكون القوة الإقليمية الأولى، بينما تسعى حثيثا نحو قيام لنظام الإسلامي، حتى أن مجلة أميركية تحدد عشر سنوات لتحول تركيا إلى دولة دينية كإيران.
قبل تسعة شهور، كان هناك عرض تصدير اليورانيوم الإيراني منخفض التخصيب لروسيا وفرنسا. وافقت إيران، ثم تراجعت. واليوم توافق على التصدير لتركيا وهي دولة غير نووية وغير محايدة في الأمر. وخلال الشهور التسعة الماضية قطعت إيران أشواطا كبرى في التخصيب. ربما ستصدر جزءا منه في حالة موافقة الوكالة الدولية على الاتفاق، بينما سيبقى الجزء الأكبر داخل إيران. وسبقت الإشارة إلى تقارير المخابرات الغربية منذ عام عن توصل إيران لمرحلة القدرة على إنتاج القنبلة، وكونها قد قامت بتخصيب عال لكميات كبيرة من اليورانيوم ستبقى في إيران. ومع الاتفاق، تعلن طهران استمرارها في التخصيب بنسبة 20 بالمائة، وهو بحد ذاته انتهاك لقرارات مجلس الأمن.
والأمر الأكبر، أن أصل القضية هو البرنامج النووي الإيراني وضرورة المراقبة الدولية المستمرة والحرة. .وسبق لإيران أن قامت بعمليات غش الوكالة ومجلس الأمن .
إيران لم تبلغ الوكالة بتفاصيل الاتفاق باعتبارها هي الجهة المخول لها الإشراف على عملية تبادل الوقود النووي، وهذا وحده كاف لإثارة الشكوك.
الطبخة الثلاثية كانت مناورة بارعة للالتفاف على جهود فرض العقوبات في مجلس الأمن، وهي ستريح الصين وروسيا، المترددتين أصلا في فرض العقوبات برغم تأكيدات الإدارة الأميركية بخلاف ذلك. وهناك اليوم تقدير بأن الاتفاق يشكل انتصارا تكتيكيا لإيران إذ سيقدم حججا جديدة لدعاة رفض العقوبات في مجلس الأمن. ومع أن البيت الأبيض أبدى شكوكه وشجب استمرار التخصيب بنسبة 20 بالمائة، فإنه اعتبر الاتفاق quot;خطوة إيجابيةquot;، مع التلويح بالعقوبات الدولية عبر مجلس الأمن ومع استمرار الحديث عن الحل الدبلوماسي، و انتظار quot; أن تظهر إيران نياتها الحسنةquot;! فرنسا ودول أوروبية غربية أخرى شككت في الاتفاق بحزم أكثر من أميركا واعتبرته لا يحل المشكلة، وأن العقوبات لا مفر منها. أملين أن لا تظل إدارة أوباما حائرة ومبلبلة ومترددة في الموضوع الإيراني، وهو من أغراض الطبخة الثلاثية. ونقول مع الأستاذ عبد الرحمن الراشد إن quot;التباطؤ من قبل أوباما، ورفضه التلويح باستخدام القوة بشكل حاد، أعطى الجميع، لا طهران وحدها، القناعة أن لا شيء سيوقف المشروع الإيراني.quot; كذلك تذكير الكاتب لأوباما بمصير كارتر، الذي خرج عام 1980 من البيت الأبيض مهانا لأنه لم يفهم طبيعة خميني ونظامه وظل يقدم التنازلات. وما لم يدرك أوباما طبيعة هذا النظام فسوف يحاصر كما حوصر كارتر.
إن ما يحزن أيضا، وبوجه خاص موقف العرب من إيران، سواء من مشروعها النووي أو من تدخلها التخريبي في الدول العربية نفسها. فالقمة الخليجية التي أغرقنا بيانها بالحديث المعتاد عن فلسطين والحملة على إسرائيل لم يأخذ موقفا مناسبا من التدخل الإيراني، بل كان موقفه باهتا وكأن المجاملة تدفع عنا شر التدخل. ومع أن المناورات العسكرية الإيرانية المتكررة كان من أهدافها تخويف دول الخليج، فإن دولة خليجية شاركت فيها بوفد عسكري. ومع أن خلية تخريب وتجسس كبيرة اكتشفت للتو في دولة خليجية أخرى، فإن رئيس مجلس نوابها يسافر لإيران ويعلن من هناك بأن دور إيران في المنطقة مهم! ولا أتحدث عن العراق وصمت قادتها عن التدخل الإيراني وقضم الأراضي ونهب المياه، ثم المطالبة اليوم بما تعتبره إيرانquot;تعويضاتquot; الحرب، وكأن إيران ليست هي التي واصلت الحرب ست سنوات أخرى بعد الانسحاب العراقي من أراضيها. ولا نتحدث عن غزة واختطاف إيران للقضية الفلسطينية؛ وعن لبنان وهيمنة سلاح حزب الله، وتحول زعماء لبنان جميعا نحو مديح سوريا وتمجيد سلاح حزب الله ndash; السلاح الذي سيقرر هو مصير السلم والحرب في لبنان. أما عن الجزر الثلاث المحتلة إيرانيا، فإن البيانات العربية تكتفي بالتأكيد على عائديتها لدولة الإمارات، دون التنديد بالاحتلال. وحتى إثارة الضجة العربية المتواصلة عن النووي الإسرائيلي، مع الصمت المطبق عن النووي الإيراني وعن التحدي الإيراني للمجتمع الدولي، تشكل دعما سياسيا ودعائيا ضمنيا لإيران في مساعيها النووية العسكرية. وكأن النووي الإسرائيلي يبيح لإيران تهديد المنطقة بسلاحها النووي، ليكون العرب بين الخطرين معا- الإسرائيلي والإيراني. وها هو السيد عمرو موسى يثني على اتفاق طهران. [ * ]
بعض المعلقين العرب يربطون بين quot;التساهلquot; العربي، والخليجي خاصة، تجاه تحديات إيران، وبين كيفية إدارة أوباما للملف الإيراني منذ عام ونصف، بحيث صار هناك من يعتبر وعوده ووعيده ومواعيده المتبدلة وتهديداته بالعقوبات، مجرد quot;كلام فاضيquot; لن يقي العرب مخاطر التغطرس الإيراني الهائج. ولكن ما لا شك فيه عندنا هو أن سياسات المهادنة والتساهل والصمت تشجع المعتدين، مثلما شجعت السياسات الغربية، قبل الحرب العالمية الثانية، هتلر على المزيد من العدوان والتوسع . هذا ما لا تفهمه الدول العربية، والخطر الأكبر هو السلوك الأميركي المتردد والمتناقض كل يوم في الموقف من النظام الإيراني.
لقد وصلت الغطرسة الإيرانية حدا يتطلب من أميركا والاتحاد الأوروبي المبادرة ، ودون انتظار إجماع غير ممكن في مجلس الأمن، لفرض عقوبات موجهة خاصة ضد الحرس الثوري الإيراني. هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، تقديم الدعم السياسي والمعنوي والدعائي الفعال للمعارضة الشعبية الإيرانية وإدانة عمليات الاعتقال والإعدام الجماعية الجارية في إيران ليل نهار. ومهما قلبنا الحسابات والاحتمالات، فلسنا ممن يعتقون أن إسرائيل سوف تسكت طويلا عن استمرار النشاط النووي الإيراني، واحتمال الحرب هو من الاحتمالات الواردة، وستكون السياسة الأميركية المتخاذلة السبب الرئيس لو نشبت تلك الحرب، التي ستكون مدمرة للجميع.
[* هامش: نشر الكاتب الخليجي محمد عبد اللطيف الشيخ مقالا بعنوان quot;نووي إيران وإسرائيل والسلاح الذريquot; بتاريخ 10 مايو 2009 . المقال، الذي نشر في صحيفة quot;الجزيرة السعوديةquot;، أعادت نقله إيلاف في باب جريدة الجرائد بالتاريخ نفسه. ونعيد هنا نشر بعضه لكونه مفتوحا للنقاش في موضوع حيوي. يقول الكاتب:
quot; تردد في بعض الأوساط العربية الرسمية هذه الأيام مقولة مؤداها: [إذا كان مبرر الاعتراض على المفاعل النووي الإيراني [في الحقيقة عدة مفاعلات ndash; ع-] الخوف من السلاح النووي، فيجب أن تكون البداية من إسرائيل لأنها الوحيدة التي تمتلك السلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط].
quot;هذا المبرر لا يمكن قبوله على الإطلاق؛ وجود السلاح الذري عند الإسرائيليين، لا يبرر إطلاقا أن نقبل تملك الإيرانيين لهذا السلاح؛ معنى ذلك أن المنطقة ستكون بين مطرقة السلاح الذري الإسرائيلي من جهة، وسندان السلاح الذري الإيراني من جهة أخرى.
quot; بالنسبة للمملكة ودول الخليج، فإن كل المؤشرات التي بين أيدينا تؤكد أن الخطر الفارسي هو الأقرب جغرافيا من إسرائيل. الإسرائيليون أعداء، لا يختلف في ذلك إلا القلة القليلة التي لا وزن لها، أما الإيرانيون، فإن لهم بين ظهرانينا طابورا خامسا يعمل بكل فعالية وجهد وتفان لخدمة إيران، وتحقيق أهدافها ، سواء من المتطرفين الشيعة، أو حلفائهم جماعة [الإخوان المسلمين]. هؤلاء استخدمتهم إيران في السابق، وما زالت تستخدمهم ، للنفاذ إلى النسيج الوطني لدول المنطقة، الأمر الذي يعني في النتيجة أنها ستفرض أجندتها السياسية والتوسعية وخدمة أهدافها ومصالحها على حساب مصالحنا، وسيكون السلاح الري سيفا مصلتا على رؤوسنا، الأمر الذي سيضع المنطقة برمتها في فوهة بركان فيما لو سمحنا لإيران بتملك هذا السلاح........quot;
التعليقات