كان بعض المعلقين الغربيين قد لخصوا سياسة أوباما الخارجية بسياسة تحقق لأوباما ود الخصوم وتزعزع الحلفاء، وهو ما أشرنا له في مقالنا عن الكاريزما قبل أسبوعين. كما أشرنا لمقال الصحفي الأميركي المعروف جيم هوغلاند، الذي انتقد قرار اوباما بعدم الالتحاق بالقادة الأوروبيين في برلين بمناسبة احتفالات سقوط الجدار. وقد جرت فعلا تلك الاحتفالات المهيبة في برلين، بحضور قادة أوروبا، وحتى ميدفيديف، ولكن بغياب أوباما. وكان هذا الأخير قد وقّت زيارته لليابان مع موعد الاحتفالات، ثم أجلها بسبب العملية الإرهابية في معسكر دالاس.
كان غياب أوباما يلفت النظر حقا، فالرؤساء الأميركيون قبله أعاروا اهتماما خاصا لمشكلة الجدار البرليني، وقد وقف ريغان قبيل سقوط الجدار بثلاث سنوات يخاطب غوباشوف: quot;يا غورباشوف: اهدم الجدار!quot; أما بوش الأب، فكان أحد الرموز الدولية لعهد السقوط، وقد حضر، قبيل الاحتفالات بأيام، ندوة في برلين بالمناسبة، ومعه هيلمت كول وليش فالاسا، متحاورين حول أحداث ذلك التاريخ.
غياب أوباما في برلين، ليس المثال الأول على درجة معينة، ولكن ملحوظة، من إهمال الإدارة الأميركية الجديدة لحلفاء واشنطن الأساسيين في أوروبا. فالموقف الأميركي الجديد من النووي الإيراني هو موقف من يحاول حصر المشكلة بين إيران والولايات المتحدة، ومحاولة عقد صفقة منفردة بينهما، وهو اتجاه شجع البرادعي عليه ولحد اليوم. أوباما تجاهل القرارات الدولية الخمس السابقة لمجلس الأمن في المشكلة الإيرانية، وتخطى ما سبق أن تم التوصل له بين الدول 5*1 - أي اشتراط وقف التخصيب مقابل حوافز مغرية- داعيا لحوار بلا شروط مسبقة. وهو لا يزال لاهثا وراء هذا الحوار حتى بعد أن نفذت إيران عدة تجارب نووية مؤخرا، كما نشرت quot;دير شبيغلquot;، وحتى بعد رفضها الصريح لصفقة منظمة الطاقة النووية المتفق عليها دوليا. فبعد كل هذه الوقائع والمواقف المقلقة، يبحث أوباما عن quot;فرصة حوار أخيرquot; مع النظام الإيراني الذي هو بارع في اللف والدوران والضحك على الذقون ومع هذه السياسة لا تكون لعبارات مثل quot; صبنا ليس بلا نهايةquot; جدوى فعلي. أما تقاربه المستمر من الصين وروسيا فهو لا يشجع على الأمل في أن تساعد هاتان الدولتان حقا على ردع إيران، ولربما وافقت روسيا على عقوبات مخففة لن تردع نظام المرشد - باسداران.
التقارب الأميركي الجديد من الصين نشط أكثر منذ بداية ولاية الرئيس الأميركي، ولعل الهاجس الاقتصادي والتجاري هو المحرك الأول لهذا التقارب، ولكن الدلائل تشير إلى أنه سيكون على حساب أمن الشعوب وحقوق الإنسان. الصين تدعم النظام الدموي في بورما، وأوباما راح يمد يده لهذا النظام أيضا. والصين تدعم النظام الوحشي في غينيا وتساعده ماليا، رغم المقاطعة الأفريقية لذلك النظام. وهي تدعم السودان بقوة، كما هي سند رئيسي لنظام الفقيه.
طبعا، الصين دولة كبرى وهامة، ولابد من قيام أفضل العلاقات مع الصين، أميركيا وعربيا وأفريقيا. هذا طبيعي، غير أن القضية هنا، مع أوباما، هي قضية الثمن الذي ستدفعه واشنطن لتحويل الصين إلى حليف رئيسي وشريك كما يريد الرئيس الأميركي. وللعلم، فإن الصين كانت قد ردت على دعوة أوباما لتصفية السلاح النووي بأنها لن تنزع سلاحها النووي.
هذا أيضا ما تفعله روسيا، التي يريد أوباما تحويلها،هي الأخرى، لشريك أساسي في حل الشؤون الدولية. فها هي روسيا تعلن عن تغيير عقيدتها العسكرية وذلك بتبني طريقquot;الضربات الاستباقيةquot; ضد أعداء محتملين، كما أن العقيدة الروسية الجديدة لا تستبعد استخدام السلاح النووي. فعن أي نزع سلاح نووي شامل يتحدث الرئيس الأميركي؟! أوباما تنازل لروسيا عن مشروع الدرع، غير مبال بمصير بولونيا وتشيكيا. وروسيا لم تكف عن تهديد جورجيا، وهي تناور مع رئيسة وزراء أوكرانيا لعزل الرئيس الأوكراني. وروسيا راحت تمد الفنزويلي شافيز بالسلاح، وتقيم معه تحالفا استراتيجيا.
نعم، لروسيا دور مهم على الساحة الدولية، ولابد من إعطائها وزنها وقيام أفضل العلاقات معها. ولكن حلم أوباما بتحويل روسيا لحليف ثابت ورئيسي، لن يتحقق ما لم يعترف لها بما تريد من مناطق النفوذ في القوقاز وفي الجمهوريات السابقة والدول الشرقية التي اتجهت غربا.
والرئيس الأميركي يبحث عن حوار انفرادي مع كوريا الشمالية - أي بعيدا عن مجلس الأمن والحفاء الغربيين. ولكن كوريا الشمالية مصرة على تسلحها النووي، والأخطر، أنها راحت تزود القاعدة بألغام متطورة يمكن استخدامها في مهاجمة 500 سفينة متطورة في الطرف الجنوبي من ماليزيا، وبالتالي تهديد النقل البحري . هذا ما أفادت به تقارير صحفية أميركية نقلا عن معلومات استخبارية بريطانية- [ انظر تقرير أشرف أبو جلالة في إيلاف بتاريخ 18 نوفمبر الجاري]. هذا النظام تظاهر بالهدوء بعد انتزاع زيارة بيل كلينتون، الذي قدم له وعودا بمكافآت مغرية، ولكن كوريا الشمالية سرعان ما أعلنت عن جعل موقع quot;يونغيانونquot; النووي للأغراض العسكرية، ثم قامت باستفزازات بحرية عسكرية لموريا الجنوبية- مما سيعقد بالتأكيد مهمة أوباما التطبيعية.
ماذا يمكن استنباطه من الحرارة الجديدة في علاقات أميركا مع الصين وروسيا مقترنة بنوع من برودة العلاقات الأميركية مع دول الغرب الأوروبية؟ وكيف نفسر محاولة أوباما حل القضايا الدولية الشائكة بصفقات منفردة يحلم أن تدعمها فيها روسيا والصين؟؟
إنها سياسات كتبنا عنها في مقالات سابقة، وذهبنا إلى أنها محملة بأخطار الكوارث والتوترات الدولية. فالقنبلة الإيرانيةقاب قوسين أو أدنى، وكوريا الشمالية تساعد القاعدة، وروسيا تواصل ممارسة ابتزاز الغاز، واليمن ينحر نحرا، دون أن يقوم أوباما بإدانة الدور التخريبي لإيران في اليمن والصومال، وتغلغل عملائها في السعودية. دول عربية وإسلامية تنحر، أو في طريق التمزق، والصمت الدولي مذهل.
قد يرد البعض بأن أوباما سوف يقدم لنا دولة فلسطينية على طبق ذهبي أو فضي. أما رأينا، فهو أن كل ما حدث من ضجة وضجيج سيكون من غير مردود فعلي لأن الأميركيين طرحوا القضية - وكما كتبنا قبلا- من فرعها بدلا من إلزام الطرفين بالجلوس للتفاوض وفق اتفاق خارطة الطريق، التي تم الاتفاق على تطبيقها عام 2007. حينذاك فقط، كان يمكن محاصرة إسرائيل وإحراجها وكشف مناوراتها، آملين - مع ذلك - أن تؤدي تحذره الأخير لإسرائيل حول المستوطنات الجديدة لنتيجة تقدم عملية السلام على أساس الدولتين. نضيف أنه، لو كان قد اتبع منذ عام موقفا حازما من النووي الإيراني، ومن التدخل الإيراني في المنطقة، خصوصا في غزة، لكان قد وضع حقا إسرائيل أمام جدار الخيار.


وماذا بعد؟!
لا أدري لماذا يحضرني حكم قاس على أوباما للكاتب الفرنسي، إيف كيردرل، الذي سبقت الإشارة له في مقال سابق. إنه حكم قاس حين يقول الكاتب إن مشكلة أوباما أنه، باعتقاده أن الرأي العام سوف يؤيد كل ما يفعل، قد ينتهي بنسيان الأسرة الدولية، أو قوى المعارضة في واشنطن. ويشتط الكاتب إذ يقول إن قلب أوباما ينبض في شيكاغو- أي لا ينبض في واشنطن؟!! وهذه قسوة حقا في الحكم، لما توحي به من أمور كثيرة الالتباس.