تشكلت منظمة الأمم المتحدة، والوكالات الحكومية المتخصصة المرتبطة بها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لتعبر عن طوح البشرية نحو الحرية والأمن والعدالة، وفي عام 1948 صدر الإعلان الدولي لحقوق الإنسان ليحدد ويشخص بمزيد من الوضوح والتفصيل ما ورد في حيثيات الميثاق الدولي عن حقوق الإنسان.
ميثاق الأمم المتحدة اعتمد في عام 1945، وأقر مبدأ السيادة الوطنية وعدم التدخل في شؤون الدول، ولكنه تضمن أيضا الفصل الرابع عن معاقبة أية دولة quot;تهدد الأمن والسلام العالميين.quot;
الأمم المتحدة وبعض وكالاتها الكبرى، كاليونسكو، تضم أكثر من 190 دولة تتوزع حسب المناطق الإقليمية الكبرى، أي مختلف القارات، بكل ما فيها من أنظمة متباينة، وربما متصارعة، والكثرة منها لا تحترم حقوق الإنسان و تعارض كل تدخل دولي باسم السيادة. لقد وجدت المنظمة الدولية نفسها عاجزة عن، أو غير راغبة في، التدخل في مجازر كمبوديا ورواندا والصومال، والبوسنة، وعمليات القتل والاضطهاد الجماعيين في دول كالعراق في زمن صدام وإيران خميني، وغيرهما.
إن الأسباب الكبرى لعجز المنظمة الدولية هي تغليب المصالح القومية الضيقة على مصالح الأمن الجماعي وحرمة حقوق الإنسان، لاسيما انتهازية مواقف الدول الكبرى. إن كثرة من الأنظمة قد حولت في الممارسة مبدأ السيادة الوطنية إلى حرية القمع الشامل للشعوب دون أن تخشى رقيبا أو مقاضيا.
لقد تعرض مسلمو البلقان لعمليات إبادة عرقية دون أن تتحرك الأمم المتحدة، حتى بادرت الولايات المتحدة زمن بيل كلينتون، ومعه حلف الأطلسي، للتدخل العسكري وتحرير المسلمين. أما في حرب العراق، فقد واجه بوش حملات ضارية ضده لا تزال مستمرة، بتهمة الأحادية، وتجاهل مجلس الأمن لقيام واشنطن منفردة، مع لندن، بإسقاط نظام صدام، في حين كانت القرارات الدولية تبيح التدخل الحاسم لمجلس الأمن لولا المصالح التجارية والنفطية لفرنسا وألمانيا وروسيا والصين، التي كانت على علم تام بمشاريع التسلح الصدامية، وبعمليات الأنفال وحلبجة، والمقابر الجماعية. إن من المستحسن هنا التذكير بردود المفكر الفرنسي أندريه غلوكسمان في حينه على معارضي الحرب، وقد سبقت الإشارة لها في مقالات سابقة. لقد قال، فيما قاله، في معرض الرد إن المعارضين كانوا قد وافقوا على تدخل حلف الأطلسي ضد ميلوسوفيتش على الرغم من أن مجلس الأمن لم يوافق عليه لتلويح موسكو باستعمال الفيتو. إذن، لماذا يعارض هؤلاء حرب إسقاط صدام، علما بأن ميلوسوفيتش كان يعتبر quot; ملاكاquot; بالقياس إلى صدام حسين؟ [الأستاذ هاشم صالح لخص المناظرة في مقاله بتاريخ 26 أكتوبر 2003 ].
إن الأحداث الدولية الأخيرة تؤكد مجددا على عجز المنظمة الدولية وتقاعسها وتناقضاتها ومفارقاتها، وكان مؤتمر دوربان 2 نموذجا صارخا لذلك. ألا ترون عجيبا أن يكون في منصة المؤتمر أحمدي نجاد وممثلة ليبيا، وأن يكون الأول صاحب الكلمة الأولى، تلك الكلمة الاستفزازية العنصرية، وأن تستطيع المندوبة الليبية، وهي في رئاسة الجلسة، أن تمنع من الكلام الطبيب الفلسطيني الذي لقي الإهانة والتعذيب في ليبيا مع الممرضات البلغاريات؟؟ كيف تمت الترتيبات لتكون دول لا تحترم حقوق الإنسان في منصة الرئاسة؟! وكيف تكون إيران في الرئاسة بينما هي تمارس الاضطهاد الديني ضد البهائية والسنة والتمييز العرقي ضد عرب quot;الاحوازquot;؟!!
أمامنا أيضا مثال العدوان الروسي على جورجيا، وقضم أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عمليا، بلا أي موقف حازم من مجلس الأمن؛ وها هي أيضا الصين تدعم المجازر في بورما وسيريلانكا والسودان، وتواصل تقديم العون لموغابي، غير عابئة بما يجري من مجازر وعمليات تهجير جماعية وتمييز عنصري. هنا أيضا، أين الأمم المتحدة؟! إن هناك مذكرة اعتقال بحق البشير، ولكن قرار المحكمة شبه معطل حاليا بسبب موقف الدول العربية والإفريقية، وحسابات دول كبرى كفرنسا، وخصوصا الولايات المتحدة التي تريد إعادة تأهيل النظام السوداني. أما محاكمة قتلة الشهيد الحريري، فقد تعرضت لانتكاسة بإطلاق سراح الضباط الأربعة نتيجة صفقات دولية من وراء الكواليس لترضية سورية.
إن الموقف من المشروع النووي الإيراني يكشف كشفا تاما، وأكثر من سواه، عجز المنظمة الدولية، ووكالتها للطاقة الذرية، عن وقف المشروع بفرض عقوبات جديدة قوية، وعزل النظام الإيراني، رغم وجود قرارات صدرت من قبل لم تردع نظام آيات الله. إن السبب هنا، عدا مواقف روسيا والصين المنحازة لإيران، هو الموقف الأميركي الجديد في عهد أوباما، الموقف الذي يريد قلب الحسابات، ويحاول إلغاء سنوات من التفاوض والقرارات والعقوبات والمحفزات الدولية، لكي يبدأ من الصفر مع إيران، منساقا وراء أوهامه ونواياه الطوباوية، والاستشارات المتضاربة التي تقدم له يوميا!
لقد أقرت المنظمة الدولية مبدأ quot;الحماية الدوليةquot; للشعوب المهددة بسياسات الإبادة العرقية أو الدينية، ولكنها لا تطبق هذا المبدأ تحت ضغط المصالح المتعارضة للدول الكبرى، فالجاني هو المصان والمكافأ، والمجني عليه هو المعاقب، والملاحظ أن الدول التي صفقت لكلمة نجاد هي من بين الدول الإسلامية وممثلي الأنظمة الغوغائية في أميركا اللاتينية.
إن مما يساعد كثيرا على تردي هذه الحالة، المنافية لصالح المظلوم والضحية، والمراعية لصالح الجناة والمذنبين، هو ما تمارسه المنظمات الدولية غير الحكومية، التي تهيمن على معظمها عناصر اليسار وأقصى اليسار، فهي غالبا ما تمارس انتقائية صارخة في مواقفها وبياناتها، بل إن من بين هذه المنظمات من يتسلل لها حتى إسلاميون متطرفون، كحالة الأخضر بومدين الذي كان عضوا نشيطا في الصليب الأحمر.
إن المثال الأقرب اليوم لأخطاء هذه المنظمات هذه الحملة الهائجة القائمة منذ سنوات لصالح مجرمي غوانتينامو، ونسيان الآلاف من ضحاياهم، ومع استقبال فرنسا للمعتقل الجزائري السابق الأخضر بومدين، راحت منظمة العفو ومنظمات حقوق الإنسان والصليب الأحمر وهيومن رايتس وتش، تدعو الدول لاستقبال معتقلي غوانتينامو، دون اعتبار لما إذا كان تأهيل هؤلاء ممكنا أم لا، فقد برهنت تجربة السعودية واليمن مثلا على أن الإرهابي الإسلامي لن quot;يرتدquot; عن سبيل الوصول لجنة الحور والولدان المخلدين بتفجير نفسه والآلاف، وإن من بين من أطلق سرحهم سابقا من المعتقل المذكور حوالي 61 منهم ممن عادوا لعمليات الإرهاب!
ربما فهم أوباما أخيرا شيئا من ذلك بعودته للمحاكم العسكرية، التي كان قد أدانها بقوة، واعتبرها غير أخلاقية. من يدري! فقد يضطر للعودة تدريجيا لسياسات بوش تجاه إيران أيضا من اجل لجم تقدم المشروع النووي العسكري الذي يهدد الأمن الدولي، ولوقف التخريب الإيراني المستمر لأمن شعوب المنطقة؟؟