مدهشة هذه الدوامة السياسية في اليونان، ومقلقة ما تستطيع فعله في الديمقراطيات الغربية تنظيمات التطرف اليساري الفوضوي عندما تكون الحكومة غير قادرة على السيطرة.
إن اليونان معروفة من بين الدول الأوروبية بتمركز التجمعات والتنظيمات المتطرفة، وهي التي استغلت حدث مقتل صبي تحرش بالبوليس مع زمرة من المتطرفين؛ استغلته لإشعال حرب شوارع، وتأجيج عواطف الطلبة لينزلوا بالآلاف لمهاجمة الشرطة بقنال مولوتوف، وليحرقوا السيارات، وينهبوا ويدمروا البنوك والمخازن الكبرى، ويشعلوا الحرائق في عدد من المباني الرسمية وغير الرسمية.
إن مقتل الصبي البالغ 15 عاما كان حدثا مأساويا، والمفترض في هذه الحالة المطالبة بالتحقيق مع رجل البوليس المعين، ومعاقبته. هذا هو الطريق القانوني، المنسجم مع قواعد الديمقراطية، ومبدأ سيادة القانون، ولكن الفوضويين استغلوا الحدث لإثارة جماهير واسعة تمر في أزمة معيشية حادة، تزيد في تفاقمها الأزمة المالية ndash; الاقتصادية العالمية.
إن اليونان تخلص من حكم الجنرالات عام 1974 وانتهج طريق الديمقراطية البرلمانية، وفي حينه، لعب الطلبة دورا مهما في إسقاط النظام العسكري، وهو ما زرع لدى فئات منهم عقيدة القدرة على إسقاط أية حكومة بالعنف واللجوء للشارع، بدلا من اعتماد الأساليب السلمية، وهي كثيرة.
إذا كان كله هكذا، فإن بقية القوى اليسارية المعارضة، وبالأخص الحزب الاشتراكي، استغلوا غليان الشارع للنزول بدورهم لتوسيع الحملة المعادية للحكومة، ودعوا لتحركات جماهيرية سلمية ولكن دون إدانة العمليات الفوضوية، التخريبية، وطلب وقفها، وهي التي أوقعت خسائر مادية كبيرة بينما البلد يمر مع العالم في أزمة اقتصادية كبرى. إن هذه المواقف الانتهازية تشجع على تحدي سيادة القانون، وتعطي الشرعية لما يقوم به من ينتهكونها.
الاشتراكيون في اليونان، كما في دول أخرى كفرنسا، قد برهنوا على انتهازية سياسية، واللجوء إلى الشارع لا للبرلمان لتصفية حساباتهم السياسية، وعندما لا يعجبهم قانون ما، اعتمده البرلمان، فإنهم يتعدون تحديه، كما يفعل الاشتراكيون الفرنسيون في انتهاك قانون ضمان الحد الأدنى من الخدمات المدرسية عند وقوع إضرابات المعلمين.
إن حكومة كراماليس، شأن الحكومات الاشتراكية قبلها، لم تستطع ترسيخ النظام الديمقراطي، والتكيف مع المتطلبات، فضلا عن كون الفساد الإداري والمالي قد انتشر في كل تلك العهود، وفضلا عن هذا لقد برهنت الحكومة الحالية على عدم القدرة على السيطرة التامة في وقت الأزمات، وهو ما تشير له بعض الصحف الفرنسية في ذكر حدث اندلاع حرائق الغابات عام 2007 وعجز الحكومة عن معالجة الموقف بكفاءة. أما أمام الأزمة السياسية الأخيرة، فالعجز أكبر، وأكثر خطورة. إن الحكومة قد سمحت لعمليات التخريب والحرق والنهب تستمر بلا استخدام الحزم، وذلك خوفا من زيادة النقمة، مع أن نتيجة هذه السياسة اللينة كانت بالعكس، نؤدي إلى استفحال الأزمة وانتقالها من أثينا إلى بقية أنحاء اليونان.

إن أزمة اليونان تؤكد لنا حقيقتين:
الأولى، إن استخدام العنف في العمل السياسي في دولة ديمقراطية يهدد أركان الديمقراطية نفسها خصوصا إذا أدى إلى حالة كحالة اليونان اليوم؛
الثانية، إن واجب الحكومات الديمقراطية هو كفالة وضمان تطبيق الدستور ومبادئ الديمقراطية، ومكافحة الفساد، ولكن عليها، من الجهة الأخرى، ضمان سيادة القانون، وانتهاج الحزم في وجه أعمال التخريب والحرق، ومعاقبة من ثبتت مشاركتهم في هذه الأعمال. إن كل تساهل مع أعمال كهذه يشجع على المزيد منها، وزيادة عدد مقترفيها.

إننا نتمنى أن يخرج اليونان من الأزمة بما يقوي أسس الديمقراطية، وبما يخدم المصالح الحقيقية للشعب والبلاد، وبما لا يلحق ضررا بالاتحاد الأوروبي.