منذ حوالي ثلاثة عقود من السنين أتابع بانتظام وقائع جرائم خطيرة في الغرب وكيفية تعامل القضاء معها، بين محامين وباحثين نفسانيين وقضاة.
لست، كما هو معروف، بالرجل القانوني، ولكن متابعاتي جاءت من منطلق الفضول، والتعرف على كل ما يجري في مجتمعات الغرب، الذي يمثل صعود الديمقراطية، ورسوخ حقوق الإنسان، ومنها حق المتهم بالدفاع عن نفسه، واختيار محام له، سواء على نفقته إن استطاع، وإلا فعلى نفقة الدولة. كما لست هنا بصدد القضاء في الدول ذات الأنظمة الديكتاتورية، والشمولية المدنية أو الإسلامية القائمة على أحكام الشريعة، أو الأنظمة الفاسدة، حيث لا احترام للقانون إن وجد قانون عادل، ولا أية استقلالية للقضاء.
إننا نرى أن القانون الجزائي، والقضاء في الغرب، نموذجيان في ضمان العدالة والمساواة أمام القانون، والشفافية، والاستقلالية. لقد تطورا من جحيم محاكم التفتيش، والمحاكم الاعتباطية للثورة الفرنسية، ومحاكم الشارع في عهد الكاوبوي، حيث يمكن لقلة من الناس الحكم على متهم، وسحبه وتعليقه على شجرة، وصلبه!!
إن كان الأمر هكذا، وهو كذلك، فقد لاحظت وألاحظ وجود ثغرات كبرى في القوانين، يستطيع محام لبق، يحسن المغالطة والالتفاف على القانون، لتبرئة المتهم بجريمة كبرى، أو التهوين من جريمته والمطالبة بمراعاة quot;ظروف شخصية خاصةquot; للمتهم تستوجب الحكم المخفف.
مررت بالعشرات والعشرات من الجرائم الرهيبة، التي لعب فيها أطباء وباحثون نفسانيون تختارهم المحكمة، ومحامون لا يهمهم غير تبرئة المجرم، في إصدار أحكام تناقض العدالة، وتنتصر للمجرم لا للضحية.
هناك متهمون يطلق سراحهم بشروط بانتظار المحاكمة، فيهربون، وهناك مجرمون خطرون محكوم عليه بأحكام ثقيلة، ولكن يطلق سراحهم بعد سنوات قليلة بحجة حسن السلوك، وبشهادة من طبيب نفسي، ومدير السجن، ثم يعودون للسجن بعد أن يقوموا باقتراف جرائم جديدة. مثل أخير من فرنسا عن المجرم الفرنسي ديديه تالينو الذي قتل 5 نساء وحكم عليه عام2001 بثلاثين عاما، وفي عام 2002 قتل ثلاث نساء أخرى بعد إطلاق سراحه بشروط، فحكم عليه 30 سنة أيضا، وكان من ضحاياه ممرضة، قال المتهم للطبيب النفساني إنه لا يعرف ما جرى، وأصابته أزمة نسيان، ولم يشعر إلا والجثة جنبه، والطبيب النفساني يصدق. في 2004 أطلق سراحه بحجة إصابته بمرض لا يرجى شفاؤه، بينما كان يجب علاجه في مستشفى السجون لا إطلاق سراحه وهو ما أغضب عائلات الضحايا.
أما مقترفو جرائم اغتصاب النساء والأطفال، فغالبا ما يطلق سراحهم بعد انتهاء أحكامهم، ولكنهم يعودون لارتكاب جرائم مماثلة. إن حرفة الاغتصاب تصبح فيهم نزعة راسخة، كما هو حال الإرهابيين الإسلاميين. إن المظالم التي لحقت بالعدالة، وبضحايا الاغتصاب في فرنسا، ووقائع تكرار إطلاق سراح المجرمين بحجة حسن السلوك في السجن، قد دفعت الرئيس سركوزي للمطالبة بتشديد العقوبة على مكرري الجرائم، وخاصة جرائم الاغتصاب، وعدم إطلاق سراحهم حتى لو انتهت أحكامهم، بل وضعهم في معتقلات خاصة هي في الوقت نفسه مصحات للعلاج النفساني، وقد جوبهت خطوة سركوزي بغضب رجال القانون، ومنظمات حقوق الإنسان، لكنه حقق ما يريد.
إن فريقا كبيرا من رجال القانون في الغرب ينسون أنه يجب أولا الانتصاف للضحية، لا البحث عن ثغرات في حرفية القانون لصالح المجرم، وهو ما يتقنه لفيف كبير من المحامين في بريطانيا، والولايات المتحدة، وغيرهما من الدول الديمقراطية. هناك مثلا اضطرار البوليس في حالات استثنائية لتفتيش منزل المتهم بجريمة كبيرة دون انتظار صدور أمر قضائي بالتفتيش. في هذه الحالات يصبح التفتيش غير قانوني، حتى ولو عثر البوليس في منزل المتهم على أدوات الجرم، وكل ما يثبت أن المتهم هو المجرم.
إن فريقا من المحامين يذهبون لحد منع الموكل من الإجابة على سؤال الادعاء العام لو كان السؤال محرجا للمتهم، بل ومنهم من يحاولون إقناع شاهد إثبات بعدم الشهادة أمام المحكمة، وعندما يشعر المحامي، في الحالات التي تابعناها بأن النطاق التف تماماً حول المتهم، فإن المحامي يسأل الادعاء: quot;هل من صفقة؟ لأن موكلي لديه معلومات خطيرة هو مستعد لكشفها لو جاء الحكم مخففا.quot; هذه المعلومات قد تتعلق بجثة يبحث البوليس عنها، أو طفل مختطف يعرف مكانه. انظروا كيف أن هذا المحامي يضع مصلحته الشخصية، سواء المال، أو الشهرة، قبل اعتبارات العدالة، والدواعي الإنسانية.
هذا وأكثر مما تابعنا سابقا واليوم، يجعلنا نعتقد بوجود ثغرات في حرفية القانون نفسه، وفي كيفية تعاطي القضاء أحيانا مع الجريمة.


جرائم الإرهاب، والدعاية للتطرف والعنف..
إن هذه الثغرات صارخة خصوصا في قضايا الإرهاب، والدعاية للتطرف والعنف.
لقد دفعت بريطانيا وفرنسا مثلا أثمانا عالية بسبب التساهل مع جرائم الإرهاب الإسلامي. ورغم أنهما تعلمتا الكثير منذ كوارث 11 سبتمبر وتفجيرات لندن، ثم إسبانيا، ولكن مع ذلك، فالملاحظ أن القضاء البريطاني يقع أحيانا ضحية محام لبق يستغل بعض النقاط من حرفية النص للحكم لصالح إرهابي، أو داعية ذكي للإرهاب، ولدينا مثلا قضايا أبو حمزة، وأبو قتادة.
في مارس 1998 قام 100 شاب بتخريب خطوط الحديد بفرنسا. اعتقل ثمانية منهم ولكن أطلق سراحهم، وبرر محقق بوليسي القرار بأن أية إجراءات ضدهم ستثير ردود فعل عنيفة! هذه المرة قامت مجموعة من الإرهابيين الفوضويين من أقصى اليسار بتخريب منتظم لخطوط الحديد الفرنسية على مدى أسبوعين، مما عطل سير القطارات، وتسبب في عذاب مئات من الركاب في برد الشتاء، أو عذاب المنتظرين في المحطات. هذه المرة سوف يحاكمون، أما محامية بعضهم فتقول إن هؤلاء ليسوا إرهابيين بل هم مناضلون، ومنهم من دفعه سوء الأحوال الاجتماعية!
إن أوباما يعتزم غلق معتقل غوانينامو بحجة أنه رمز للتعذيب، ومهين لصورة الولايات المتحدة ومثلها. هذا هو أيضا ما بثه على مدى سنوات دعاة حقوق الإنسان، واليسار الغربي، وبعض الحكومات العربية التي لديها في المعتقل إرهابيون من رعاياها.
إن هذا المعتقل لم يفتح اعتباطا، ولا حبا في الحجز والاعتقال. إنه فتح في أعقاب حرب أفغانستان عقب تفجيرات كلفت عدة آلاف من الضحايا نفذتها القاعدة حسب اعتراف زعيم القاعدة بن لادن نفسه. وفي المعتقل مجرمون اعتقلوا متلبسين بالجريمة، وهم يتمتعون بحرية إقامة شعائرهم الدينية، وتوزع عليه المصاحف. أما الأغلال الثقيلة في الأرجل، فنجدها في كل السجون الأميركية فيما يتعلق بالمجرمين الخطرين، وكذلك في سجون دول أخرى. فهل هذا هو التعذيب؟!
لقد أطلق خلال العام المنصرم والعام الحالي عدد من معتقلي غوانتينامو، ولكنهم سرعان ما توزعوا على العراق وأفغانستان، وقاموا بعمليات إرهابية جديدة، ومنهم من قتل في المعارك في الأراضي العراقية.
إننا نتوقف بعض الشيء عند ها المعتقل، وقرار أوباما، لأننا نراه قراراً خطرا، يشجع القاعدة، من حيث يراد العكس، فالمعتقل هو رمز الحرب على الإرهاب، وإن توزيع المعتقلين على سجون أخرى، أو دول أخرى، أو إطلاق سراح عدد كبير منهم، سيؤدي في نظرنا إلى زخم في عمليات الإرهاب، وليس العكس. وفي جميع الأحوال، ومهما فعل أوباما، فإنه لا يستطيع إسكات جميع المداافعين عن معتقلي غوانتينامو، لأن الانتقادات لأمريكا ستستمر، سواءً أغلق المعتقل أم بقى.
إن الإرهابي المحترف، والمغسول دماغه، لا يمكن أن يرتدع ويتعظ، شأنه، كما قلنا، شأن محترفي الاغتصاب. فهل يأتي في المقدمة ما يعتبر quot;حقوقquot; المجرم، أم حقوق الضحايا، وعائلاتهم، ومقتضيات العدالة؟