نعتقد أن ما يجري في العراق اليوم هو خليط عجيب، غريب، من المفارقات ومناورات التلاقي والصراع.

فيما يعود الإرهاب المتعدد المصادر لينهش في ما تحقق من أمن نسبي، وفيما تقول الإحصاءات العراقية الرسمية إن ربع السكان هم تحت مستوى الفقر، وفيما يزداد الفساد


أشارت تقارير البنتاغون إلى أن الحكومة العراقية عاجزة ماليا عن صيانة معداتها العسكرية، كما أشارت أن القوات العراقية تضم quot;آلاف الجنود الوهميينquot;، نظرا لفساد منتشر بين الضباط. لقد أنفقت الولايات المتحدة حوالي 628 مليون دولار على تطوير قدرة الجيش العراقي ولكن لم يسجل نجاح كبير.وتقول التقارير المذكورة إنه بضغط من مسئولين في الجيش الأميركي، وافقت وزارتا الدفاع والداخلية العراقيتان على مراجعة رواتب الموظفين وتخفيضها، ومن المتوقع أن تسفر المراجعات عن التخلص من آلاف الجنود ورجال الشرطة الوهميين من جداول المرتبات، والذين يعملون صوريا فقط، كما سيترتب فصل الضباط والجنود الذين تم تعينهم رغم افتقارهم لمؤهلات العمل المطلوبة: مثل ألا يكون أميا، وأن يكون سنه ملائما، وألا يكون عاجزا طبيا. وبما أن القوات تتلقى رواتبها نقدا ويتم نقل ذلك من خلال تسلسل قيادي، يلجأ العديد من القادة إلى الكذب بشأن عدد الجنود الذين يشرفون عليهم.بسبب هذا النوع من الفساد حتى أن بعض الضباط برتبة رائد يحصلون على 70000 دولار شهريا. إن المسئولين الاميركيين يعتقدون أن حوالي 25 بالمائة من ميزانية الوزارة السنوية تسرق. [ انظر خلاصة التقارير في quot; الشرق الأوسطquot; بتاريخ 21 أيار 2009 ]
إستشراساً بعد أن أضاع المليارات التي قدمت لتعمير العراق وإعادة الخدمات؛ فيما يجري هذا كله، يطلق السيد المالكي فكرته بتأسيس النظام الرئاسي كعلاج يتصوره لقاعدة المحاصصة المذهبية والعرقية، التي يصفها، ويصفها غيره، بquot;الديمقراطية التوافقيةquot;.

المالكي محق كل الحق في طرحه لشعارات وطنية عامة تؤكد على الوحدة الوطنية وسيادة العراق ونبذ التقاسم المذهبي، الذي ثبت فشله التام من خلال أداء أحزاب الائتلاف الشيعية والحزب الإسلامي السني، ومن خلال تقاسم المناصب، كبيرها وصغيرها، وفق معايير مذهبية وعرقية بحتة، دون مراعاة للكفاءة والنزاهة والإخلاص للوحدة الوطنية وللقيم الديمقراطية. لقد فشلت أحزاب الائتلاف منذ اليوم الأول لميلادها وذلك بإصرارها على انتخابات متعجلة عام 2003 بدعم من فتاوى السيد السيستاني، ثم الدخول في قوائم انتخابية طائفية، وسن دستور مسخ بعد سلسلة من مسودات كانت ترفض مجرد ذكر كلمة ديمقراطية. ذلك الائتلاف الممزق اليوم هو الذي طلب علي لاريجاني من الأحزاب الشيعية، خلال زيارته الأخيرة للعراق، إعادته كما كان، فتحمس السيد الحكيم، ولكن المالكي غير موافق حسبما يعلن حتى اليوم.

إن المالكي محق في رفض عودة ذلك الإتلاف كما كان، والتشديد على أن يكون ائتلافا وطنيا واسعا جدا، بصرف النظر عن المذهب والدين والقومية، وإن كنا لا ندري هل يقصد مثلا جبهة وطنية كجبهة الاتحاد الوطني قبل ثورة 14 تموز، كما لا نعرف ما إذا كان سيستمر على هذا النهج طويلا!؟

دعوة النظام الرئاسي تأتي في غير وقتها، فضلا عن أنها ليست البديل في بلد كالعراق بسبب الوضع الراهن، المنشطر، المتصارع. النظام الرئاسي نجح في دول ذات ديمقراطية راسخة طويلة الأمد، وحيث الديمقراطية ممارسة وفكر وثقافة، كما، مثلا في الولايات المتحدة، أما في بلد مثل العراق، حيث لا تاريخ لحياة ديمقراطية وثقافة ديمقراطية متأصلة، فإن النظام الرئاسي لا يقود لغير الاستبداد والانفراد بالسلطة واحتكارها.

إن المالكي لم يوضح ما يقصده: هل هو نظام رئاسي برلماني كالولايات المتحدة حيث رئيس جاء بالاقتراع الشعبي العام، وحيث لا منصب رئيس وزراء؟ أم نموذج فرنسا، الذي يقتصر على اختيار رئيس الجمهورية بالاقتراع العام، وهو الذي يعين رئيس الوزراء لا البرلمان، وله صلاحيات واسعة وحاسمة، ولكن لرئيس الوزراء أيضا صلاحياته التنفيذية المهمة؟ ومهما يكن، فالمطلوب مستقبلا تعديل الدستور بحيث يكون لأي رئيس جمهورية عراقية قادم صلاحيات قوية لا رمزية.

على كل، فإن قضايا بهذه الخطورة لا تطرح بارتجال، إذ لا بد من نقاش وحوار سياسيين ودستوريين بنائين، ولابد أيضا من توضيح معاني النظام التعددي، والنظام التوافقي، وهل الأخير يعني المحاصصة على أساس مذهبي فئوي؟؟

نعم، من المطلوب إجراء النقاش والحوار في هذه المسائل المعقدة والحساسة بين النخب السياسية وقادة المجتمع المدني ورجال القانون والمثقفين، على ألا يكونا على حساب الاهتمام الاستثنائي بالمشاكل العاجلة للشعب، كالخدمات والأمن ومكافحة الفساد ـ هذا الفساد الذي راحت فضائحه تزكم الأنوف منذ سنوات، وهو على كل المستويات، من وزارات ومن برلمان، ناهيكم عن المحسوبية وتقريب الأقارب والحزبيين. وعندما ننظر لأحوال العديد من الوزارات، نسجل بكل ألم أن أداءها متخلف حتى عما كانت عليه في العهد الملكي، ولا نقول في عهد الثورة. ومن بين أمثلة الانتهاكات التي تمتص أموال الشعب هو ما يحدث في مستشارية الأمن القومي، غير المطلوبة أصلا، حيث كان المخصص لها تعيين 20 موظفا بينما هم اليوم 426 موظفا- لا غير!!

نعتقد أن المالكي والقيادات العراقية الحريصة على قيام الديمقراطية والاستقرار وعلى حل مشاكل الشعب العاجلة مدعوة قبل الانتخابات القادمة للاتفاق على برنامج وطني عام يؤكد على دستور يخلو من أحكام الشريعة، ويؤكد على حقوق المرأة، ويدعو لاحترام حقوق كل الأقليات بالممارسة لا بالكلام، وقيام حكم مركزي اتحادي قوي له صلاحيات الحكومات الاتحادية في العالم، من دون الانتقاص من صلاحيات المحافظات، وبالتأكيد على خصوصية الوضع في إقليم كردستان وصلاحيات نظامه الفيدرالي.

إن مما يفيد للاعتبار، بصدد الاختلاف بين طبيعة أحزابنا الوطنية أمس واليوم، أن نذكر أن الأحزاب الوطنية منذ قيام العراق الحديث قامت على أسس برامج سياسية وطنية، وفشلت محاولات البعض لتأسيس أحزاب دينية، أو مذهبية، وكان جعفر أبو التمن الشيعي، زعيم حزب وطني كبير، ومساعده الأول كان مزاحم الباججي، السني المذهب، وكانت بقية الأحزاب، كالوطني الديمقراطي وحزب الشعب والاتحاد الوطني وحزب التحرر، تجمع المسلم والمسيحي واليهودي والصابئي المندائي والكردي والعربي والتركماني، وكان الحزب الشيوعي هو الأبرز من حيث التركيبة التعددية. أما الأحزاب الكردستانية، فكانت لها خصوصيتها بحكم كونها تمثل سكان إقليم له خصائصه القومية واللغوية والجغرافية والتاريخية، وكانت هذه الأحزاب تدخل في ائتلافات مع أحزاب أخرى قائمة في الإقليم، وهو الجاري حتى اليوم.

إن هشاشة الأمن وعدم الاستقرار، واختلاط الأوراق وبعثرتها، تعود لدرجة كبرى إلى التدخل الإقليمي، لاسيما من إيران، حيث هناك زعماء للقاعدة، وإذ لإيران جيش عرمرم من الأتباع داخل العراق. أما من سوريا، شريكة إيران، فلا يزال القاعديون العرب يتسللون منها وبدعم مالي، كما دل مرة جديدة انكشاف الخلية المرتبطة بسوريا.

إن المؤلم والداعي لاعتراض شديد هو موقف الحكومة والأحزاب الحاكمة من التدخل الإيراني في العراق وفي سائر بلدان المنطقة، وصولا لليمن والصومال وكشمير وحتى أرتيريا، أضف إرسال ست سفن حربية لخليج عدن. والملفت للنظر أن هذه القيادات لا تبدي أي قلق من مشروع إيران النووي، الذي قال عنه رئيس أركان القوات الأميركية إن إيران على أبواب صنع القنبلة، كما مؤلم وملفت للنظر أيضا أن العديد من الدول العربية التي تبدي قلقها المشروع من تصرفات وسياسات نظام آيات اللهً لم تتخذ عمليا أي إجراء لمواجهة الخطر النووي والتدخل الإيراني.

إن الوضع العراقي لا يزال quot;مخربطاquot;، كما يقول العراقيون، والأزمة المالية وهبوط أسعار النفط يزيدان من الصعوبات أمام الحكام، بل ويؤثران سلبا على أمن العراق داخليا وخارجيا، فهذه الصعوبات المالية تهدد بتقويض خطط العراق لبناء قواته العسكرية وأسطوله الجوي ndash; كل هذا، ناهيكم عن استمرار اختراق قوات الأمن والشرطة.

لسنا متفائلين بقدر ما يتعلق الأمر بالمستقبلين القريب والمتوسط للعراق، وإن كنا نؤمن بأن العراق سيخرج معافى في نهاية المطاف.