في 9 نوفمبر من عام 1989 اخترقت جماهير برلين الشرقية معابر الجدار الحاجز للانتقال إلى القسم الغربي من المدينة. فبعد منع سلطات ألمانيا الشرقية للانتقال من القسم الشرقي للغربي، اضطرت للإعلان مساء ذلك اليوم عن السماح بالعبور، فتدفقت مئات الآلاف وآلاف السيارات للعبور من قسم لآخر من مدينة حُجز بينهما اعتباطا، وخلافا للاتفاقات الدولية، وما كان ذلك يعنيه من تمزيق أوصال المدينة والعائلات.
يوم العبور في 9 نوفمبر قبل عشرين عاما اعتبر يوم سقوط الجدار رغم أن هدمه ماديا جرى بعد ذلك بأسابيع قليلة.
إن سقوط الجدار كان إيذانا بانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي الشيوعي والغربي الرأسمالي الديمقراطي، وكان مفتتح انهيار الكتلة الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي، وانتهاء عهد الحرب الباردة- مما خلق وضعا دوليا جديدا تماما.
برلين مدينة، عانت كثيرا تحت كابوس هتلر والخراب الشامل بسبب الحرب العالمية الثانية، وتحولت بعد الحرب لمصدر توترات متلاحقة بين الكتلتين الدوليتين اللتين قامتا بعد الحرب. خرجت من الحرب مهدمة والناس يبحثون عن مأوى وطعام، وهم في وضع بائس للغاية.
لقد قسمت اتفاقية يالطا بعد الحرب مدينة برلين لأربع مناطق محتلة، ولكن خالية من العسكر: سوفيتية وأميركية وبريطانية وفرنسية، وكانت الحدود بين منطقة وأخرى لا تكاد أحيانا تظهر للعيان لولا العلامات المكتوبة المنصوبة. وأحيانا كان مبنى واحد يمثل الحدود، أو حتى بيت بمفرده. ومع ذلك كان الانتقال من قسم لقسم حرا حتى عام 1948 عندما فرض السوفيت حصارا كاملا على المدينة بين الأقسام، مما دفع الأميركيين لإقامة جسر جوي أدى قيامه لتراجع السوفيت. وكان ذلك هو الموقف الغربي الصلب الوحيد في الرد على سلسلة استفزازات تلاحقت فيما بعد.
في1949 قامت دولة ألمانيا الغربية وعاصمتها بون، ودولة ألمانيا الشرقية ذات النظام الاشتراكي على النمط السوفيتي، واتخذت من برلين الشرقية عاصمتها خلافا للاتفاقية الرباعية. وكان الآلاف من سكان برلين الشرقية ينتقلون باستمرار إلى برلين الغربية، خصوصا بعد شمول ألمانيا الغربية بمشروع مارشال الأميركي، الذي سرعان ما أعاد بناء البلد وبرلين الغربية، وحيث الازدهار الاقتصادي والسلعي، ناهيكم عن أن التطلع للحرية كان العامل الأول للانتقال. وما بين 1949 و1961 ترك حوالي 3 ملايين ألماني جمهورية ألمانيا الشرقية، وبينهم عشرات الآلاف من النخب العلمية أصحاب الاختصاص، مما اعتبرته السلطات الشرقية تهديدا لكيانها بالذات. إن هذا الوضع، الذي أقلق للغاية سلطات ألمانيا الديمقراطية، دفعها لتنفيذ فكرة بناء الجدار بين قسمي المدينة والمناطق المحيطة في 13 أغسطس 1961، وجرى تحصينه باستمرار.
أدى بناء الجدار لانفجار توتر جديد بين الغرب والشرق بعد توتر عام 1948، وقامت الدبابات الأميركية والسوفيتية على الحدود باستعراض العضلات، ولكن الغرب لم يفعل شيئا عمليا لوقف بناء الجدار، بل إن كندي اعتبر بناءه quot;دليل ضعفquot; ألمانيا الديمقراطية! رغم أن شرائح واسعة من سكان برلين الغربية كانوا يتصورون أن أميركا ستحول دون قيام الجدار، وعندما زار كنيدي القسم الغربي بعد حوالي عامين استقبلته الجماهير بحرارة بالغة، ولكنه لم يتخذ إجراء يزيد في التوتر.
إن سقوط جدار برلين كان رمزا لحتمية انهيار الأنظمة الشمولية البوليسية. صحيح أن الدول الاشتراكية حققت قسطا كبيرا من العدالة الاجتماعية، فوفرت السكن الرخيص، والعلاج الطبي المجاني، والتعليم المجاني، وقامت بعمليات عمران هائلة، وطورت الصناعة، واستطاع السوفيت العبور للفضاء مع غاغارين. هذا صحيح، ولا يجب إنكاره، ولكن في مقابل ذلك، كان العسف البوليسي وتسلط المخابرات وإحصاء الأنفاس وتقييد الحريات، تحت نظام الحزب الواحد والاقتصاد الممركز وأولوية الصناعات العسكرية والثقيلة على حساب الصناعات الاستهلاكية الضرورية للمواطن.
كانت ألمانيا الديمقراطية، مع بلغاريا، أكثر دول quot;الديمقراطيات الشعبيةquot; ستالينية وانجرارا وراء الاتحاد السوفيتي. والمخابرات الألمانية الشرقية، quot;الستاسيquot; ساهمت مع البلغار في دعم منظمات إرهابية غربية لزعزعة أمن أوروبا الغربية. والمعلومات كشفت عن دور بلغاريا في واقعة محاولة اغتيال البابا الراحل.
كان السخط يتراكم داخل ألمانيا الشرقية والتطلع للانتقال لألمانيا الغربية مستمرا، ورغم وجود الجدار وخطر الموت بإطلاق رصاص الحرس، فقد كان يتم الانتقال من برلين الشرقية للغربية بطرق شتى، بما في ذلك حفر أنفاق، والقفز من مبنى شرقي لشارع غربي، ووقعت حوادث مأساوية كثيرة، فوقع المئات صرعى برصاص الحرس، وحدث أن امرأة قفزت من شقة في مبنى مشترك فوقعت أرضا وماتت، وأصيب شاب في الثامنة عشرة بالرصاص بين الأسلاك الشاكة فبقي هناك يحتضر ويعاني حتى انتهى.
كان زعيم ألمانيا الديمقراطية اولبريخت، وبعده هونيكر، من أكثر زعماء الكتلة الشرقية تشبثا بالستالينية، حتى بعد عملية انفتاح غورباشوف. وكان انفتاح غورباشوف على الغرب وعلى الحريات الداخلية قد أثر تأثيرا هائلا على جماهير الدول الشرقية، فوقعت أحداث تململ وتمرد ومظاهرات دامية.
سنعود في المقال التالي لظاهرة غورباشوف، وتأثيره الكبير، وتحليل مفاهيمه وسياسته بالعلاقة مع سقوط الجدار وانهيار حلف وارشو والكتلة الشرقية. ولكن نود إنهاء هذا المقال بحادث زيارته عشية سقوط الجدار إلى برلين الشرقية. فقد خرجت مئات الآلاف من السكان لتحيته، مارين أمام المنصة الرئاسية وهم يهتفون بحماس: quot;غوربيquot;، quot;غوربيquot;، وهو تصغير اسم غورباشوف. كانوا يعتبرونه محررهم والأمل عليه لهدم الجدار، وكان هذا الهتاف يقترن بهتاف quot; اخرجوا يا ستاسي!quot;.
في تلك الأيام علق غورباشوف على الحركة الاحتجاجية السلمية الصاعدة في برلين الشرقية بقوله: quot;من يتأخرون عن التاريخ سوف يعاقبونquot;. وكان ذلك غمزا بتصلب زعماء ألمانيا الديمقراطية، فاعتبر دعما لحركة الجماهير، التي كانت ترد على إصرار هونيكر في خطابه إذ يقول: quot;الاشتراكية راسخة ونحن ماضونquot;، بهتاف quot;نحن الشعبquot;. وسرعان ما استقال هونيكر، وأعلن خلفه عن رفع تحريم العبور، فكان سقوط الجدار. واعتبر ذلك اليوم مهرجان التحرير.