الجو السياسي والانتخابي العراقي شديد الاحتقان، فبعد قضية فكة، تأتي اليوم قضية السيد صالح المطلك لتزيد في الاحتقان، فيما تتضارب التصريحات عن فكة: انسحبوا؟ لا، لا يزالون؟
هل من علاقة بين القضيتين؟ هما منفصلتان ولكن مترابطتان، خصوصا، وإن قضية فكة قد شهدت تصريحات حادة ضد المالكي لصمته طوال حوالي 20 يوما عن الاحتلال الإيراني، ولم تخل الساحة من المزايدات الانتخابية باستغلال القضية، ولكن إدانة الاحتلال ونقد موقف الحكومة وأحزابها الدينية كان، ولا يزال، صحيحا.
قضية المطلك تهدد بتسخين الساحة العراقية، وها نحن نقرأ بيانا شديد النبرة بتوقيع quot;الحركة الشعبية لاجتثاث البعثquot; في دعم قرار إقصاء المطلك وكتلته، وإدانة تصريحات يقال إن اثنين من مؤيديه أدليا بها في مدينة كولن الألمانية، ومفادها بأن: quot;قائمتهم ستتخذ كل السبل المتاحة لفرض البعث في العراق مرة ثانية حتى لو تطلب الأمر أن تسيل الدماء ثانية في العراق أنهاراquot;؟؟
أولا: من هذه الهيئة، ومن هم مؤسسوها ودعاتها؟ إذ لم نسمع بها غير اليوم؛ وثانيا، هل التصريحات المنسوبة للشخصين المذكورين دقيقة حقا؟ لو كانت صحيحة، فإنها تدان، ويجب محاكمة قائليها عليها لكونها تحريضا على العنف ودعاية لجرائم صدام. أما ثالثا، فهل ثمة خطر بعثي في العراق بحجم التهديد بعودة نظام البعث الصدامي من جديد؟ هذا موضوع مفتوح للنقاش، علما بأن خطر الإرهاب البعثي موجود، وله سند من سوريا وبعض دوائر الجوار، وله أمواله، وتجارب فتكه بالمواطنين. أما أنه خطر بحجم احتمال عودة نظام صدام، فلست ممن يعتقدون به، لأسباب منها أن البعثيين السابقين، الذين دخلوا العملية السياسية، لدى كل واحد، أو كل مجموعة منهم، طموحاتهم ومشاريعهم الخاصة، التي لا يمكن أن يضحوا بها للدوري أو الأحمد، وكما يقول الكاتب حسين كوكوش، فلو عاد صدام حسين بقضه وقضيضه وسار في الشارع، لما وجد مؤيدين، إن لم يرجم حالا. فجرائمه لم تنس، ودماء الضحايا لا تزال فائرة، والمقابر الجماعية تظل كابوسا في النفوس. وأخيرا، كلما تحسنت أوضاع المواطنين، وكوفح الفساد الشامل، عولج الأمن، وانحسر الأداء الطائفي للحكومة وأحزابها، وكفت عن مجاراتها لإيران، تتراجع كل التراجع فرص الدعاية البعثية بين المواطنين. الصداميون قوة إرهابية قائمة، ولا يمكن أبدا إنكار وجود هذا الخطر، ولكن ذلك لا يجب أن يقودنا لإغماض العين عن الأخطار الأخرى، وعلى رأسها الخطر الإيراني، كما لا يجب أن يكون عكازة لتجاهل التخبط والفشل المروعين في أداء الحكومة والقيادات الحاكمة، وما نجم عن ذلك من تحول البلد إلى دولة الفساد الكبرى في العالم، و فتح الباب أمام تدخل إيران، ومن مضاعفة عدد المهاجرين والمهجرين.
مهما كان، فالموضوع يستحق حوارا موضوعيا شاملا بلا اتهامات وتجريح وتعريض، رغم أن الأمل في مثل هذا النقاش الهادئ ضئيل مع الأسف.
لقد برز السيد المطلك بعد انهيار نظام صدام، وكان بعثيا، وقيل إنه ترك البعث عام 1973، وليست لي معلومات بهذا الشأن.
سؤالي، وبصرف النظر عن مخالفتي التامة والجذرية للتوجهات السياسية للسيد المطلك: لماذا اليوم؟ لماذا قرار حرمانه من حق الترشيح اليوم، وهو كان عضوا في لجنة كتابة الدستور، ودخل انتخابات 2005 وله 11 نائبا، واقترحوا عليه في حينه دخول الحكومة، ثم دخل انتخابات المحافظات للعام المنصرم، وكل ذلك دون أن يصدر عن هيئة اجتثاث البعث السابقة قرار تحريم. فلماذا اليوم قرار صدر عما يدعى بهيئة المساءلة، التي لم تتأسس بعد، سوى تعيين الرئيس، فهو قرار شخص واحد على ما يبدو. وقرار لم تعلن أسبابه، فهل اقترف المطلك جرما ما مؤخرا؟ أو جاهر بموالاته لصدام مثلا؟ بعض المحللين يرونه قرارا من المالكي ومكتبه، وموجها أساسا ضد الدكتور علاوي. وكان المالكي قد هدد، عند تشكيل تحالف علاوي الانتخابي، باستعمال quot;صلاحياتهquot; لمنع quot;دخول البعثيين للبرلمان القادم. ويعيد لنا صحفي عربي التذكير بمقال نشرته quot; واشنطن بوستquot; في 20 مارس المنصرم، تعليقا على تصريحات جديدة كان قد أدلى بها المالكي عن وجوب التسامح مع البعثيين ممن quot;أجبروا وأكرهوا في وقت من الأوقات على أن يكونوا في جانب النظام السابقquot;، كما قال، وإنه قد آن الأوان لنسيان ما حدث في الماضي. وتضيف الصحيفة الأميركية بعض ما دار بين مراسلها والسيد المطلك، الذي قال للمراسل إنه قبل شهرين من تصريحات المالكي هذه قال لرئيس الوزراء:quot; في وقت من الأوقات كنت تقف ضدي حيال هذه القضاياquot;، ويدعي المطلك أن المالكي أجابه:quot; يجب أن تكون سعيدا بأنني تغيرتquot;، مضيفا ndash; على حد زعم المطلك ndash; أن المالكي اقترح عليه تحالفا انتخابيا؟؟
هذا ما ورد، ولا يمكن التأكد من زعم المطلك عن اقتراح المالكي حول التحالف، ولكن المعروف أن المالكي كان قد صرح مرارا بوجوب المرونة مع البعثيين السابقين، وقد أعاد بالفعل عددا كبيرا منهم، ويشغل بعضهم اليوم مناصب هامة في الدفاع والاستخبارات والداخلية.
أكتب هذا من باب التساؤل، فأنا، كما قلت، وكما هو معروف، ضد توجهات المطلك، مثلما ضد فكر ومواقف الأحزاب الدينية الحاكمة. ولكنني أرى قرار رئيس المساءلة مثيرا لأزمة جديدة نحن في غنى عنها، لاسيما وهو لم يعط الأسباب، وحيث سوف يفسر بكونه ضد السنة، وبسياسة إقصاء وتهميش لاستحواذ ائتلافي المالكي والحكيم - الصدر على غالبية مقاعد البرلمان.
لقد تابعت مساء 9 منه من شاشة قناة quot;العربيةquot; سجالا حول الموضوع بين السيد بهاء الأعرجي، رئيس اللجنة القانونية البرلمانية، وبين أحد نواب كتلة السيد المطلك. وأثار الأخير نفس سؤال: لماذا الآن؟ وكان جواب الاعرجي أن بإمكان المطلك الشكوى لمحكمة التمييز. ولكن هل المحكمة ستكون مستقلة؟ كان الجواب. وسأله المشرف على الندوة، وهو يشير لعصائب أهل الحق،: لماذا المطلك، بينما يفرج عن قيس الخزعلي؟، فكان جواب الأعرجي حرفيا:
quot; الخزعلي رجل مقاوم ومجاهد وقد اعتقله الأميركيونquot;!! عجيب حقا! مداهمة وزارة المالية بأربعين إرهابيا بملابس شرطة، وخطف خبير مالي بريطاني منها مع حراسه، وإيداعهم في إيران- أقول عجيب أن يدعى هذا quot;جهاداquot;، وخصوصا بعد اغتيال الحراس. وللعلم، فإن الخطف كان في حقيقته من تدبير حرس الثورة الإيراني، وكان لبعض شخصيات الحكومة دور فيه وذلك خوفا من كشف الخبير البريطاني المالي لوقائع الفساد.
ملاحظة أخرى، إن كان هناك خوف مبرر من البعثيين السابقين، ويمكن إقصاء بعضهم من الترشيحات، فلماذا لا يطبق المبدأ نفسه على شخصيات كمقتدى الصدر المتهم بالتحريض على القتل، وعليه أمر إلقاء القبض قضائيا منذ الأيام الأولى لسقوط صدام؟!
هناك أيضا من حاولوا ربط القرار بزيارة متقي لبغداد على هامش أزمة فكة. وهو تفسير مفتوح للنقاش على ضوء الوقائع. ولا ينكر أن أزمة فكة قد عمقت الأزمة العراقية، وأحرجت المالكي وكتلة الحكيم ndash; الصدر الانتخابية. فالمالكي صمت حوالي 3 أسابيع قبل أن يتكلم، مما استغله منافسون الانتخابيون، وكان المطلك قد شن حملة نقد ساخنة ضد شخص المالكي، وقال لي صديق مطلع إنه ربما كان هذا هو السبب الأول لقرار الإقصاء، فنحن نعلم أن حكام اليوم لا يتحملون كلمة نقد، ومنذ شهور اشتكى مسئولون في حزب الدعوة للمحاكم العراقية على صحيفة quot;الغارديانquot; لأنها وصفت أساليب حكم المالكي بالتسلطية.
أما، هل انسحب الإيرانيون حقا، كما قال المسئولون العراقيون، أم لا يزالون كما يقول آخرون، فلسنا على الأرض لنتأكد. فقد نفى ذلك عضو اللجنة الأمنية في مجلس محافظة ميسان، قائلا إن زيارة متقي كانت quot;غير موفقةquot;. كذلك كان تصريح النائب السابق، عبد الكريم عليان، الذي قال بصفة quot;رئيس أعيان الجنوبquot;، [ولا ندري ما هذه التشكيلة]، إن الإيرانيين لم ينسحبوا. وقال:quot; أتحدى أي مسئول عراقي أن يقترب مسافة 300 متر من البئر رقم 4.quot;
إن الأطماع الإيرانية في نفط العراق وأراضيه معروفة، وهي تطالب بمدن عراقية، كما صرح مسئول أمني عراقي في 16 آب 2009- ناهيكم عن القصف المستمر لأراضي إقليم كردستان. وبإمكان المالكي تحسين صورة حكومته لو مارس سياسة حازمة وشفافة حول المشاكل مع إيران، ومنها مشكلة المياه، والحزم ليس دعوة إلى quot;قادسيات صدامquot;، كما يعرض بسخرية وتشويه أنصار المالكي، بل يعني الدفاع عن المصالح العراقية دبلوماسيا وماليا واقتصاديا، والاحتكام للمراجع الدولية عند الاقتضاء.
الوهم الذي يروجه حزب الدعوة عن quot;مؤامرةquot; تحاك ضد المالكي لا أساس له، ولو كانت ثمة quot;مؤامرةquot;، فهي تأتي أولا من حلفائه السابقين، الذين قال إنه في مفاوضات معهم. والحال، أن المشكلة بينهم هي التنافس على مركز رئاسة الوزراء.
لقد كسب المالكي شعبية كبيرة حين رفع شعارات مدنية في انتخابات المحافظات وحملته على المحاصصة، وقد كتبنا في حينه مؤيدين، ولكنه لم يبرر الآمال، وجرفه الشعور بالاكتفاء والرضا بالنفس أمنيا، ولم يطبق ما وعد به من مكافحة المحاصصة والطائفية، ولم يكن حازما في مطاردة الفساد، بل ازداد الفساد في عهده، ولم يقف الموقف المطلوب تجاه التدخل الإيراني وقطع المياه ومواصلة تسليح ودعم بعض المليشيات. وأما موضوع الخدمات، فقد بقي غير محلول إلا جزئيا. أما وإنه لم يحقق الآمال التي زرعها في حملته الانتخابية تلك، فإن على السيد رئيس الوزراء أن يلوم نفسه، قبل سواه، على المعارضة التي تتسع ضد انفراده بالقرارات.