في مقال سابق أكدت على ما سبق لي تبيانه في العشرات من مقالاتي، عشية حرب العراق وبعدها، من مشروعية الحرب إنسانيا وقانونيا، حيث أن الشرعية الحقيقية هي ضمان العدالة. وكان تحرر العراق من نظام صدام إقرارا للعدالة و،في الوقت نفسه، ضمانا لأمن المنطقة والأمن العالمي. ونعرف كيف كان الهيجان في الإعلام والشارع العربيين قبيل الحرب، بموازاة هيجان اليسار الغربي، إدانة لمشروع الحرب ودعما لنظام صدام- هيجان مستمر لحد اليوم بصيغ أخرى، لاسيما بمناسبة quot;التحقيقquot; البرلماني مع بلير. فالصحافة العربية لا تخلو يوما من تعليق أو مقال في التحامل على بلير بسبب المشاركة في الحرب، ولا أرى جوابا على الإدانة العربية للحرب خيرا مما كتبه الأستاذ عبد الرحمن الراشد بعد يوم من سقوط صدام، حيث كتب أن سقوط النظام العراقي كان quot;سقوطا للإعلام العربي التلفزيوني والمطبوع وتحديا للمسلّمات السياسية والثقافية، مضيفا إن الفرح في بغداد كان quot;سخرية من النظام العربي الثقافي والسياسي والإعلامي، الذي حارب كذبا نحو خمسين عاما.quot; وقد استشهدت بهذه العبارات في مقالي بإيلاف ليوم 11 أبريل- نيسان- 2003 بعنوان quot;حذار، حذار، من تشويه انتصار التاسع من نيسان.quot;
إن من يحاكمون اليوم من العرب قرار الحرب يشيرون خاصة إلى التدخل الإيراني واسع النطاق في العراق، والذي نؤكد على حقيقته في جميع مقالاتنا. وكما قال بلير، فإن بعض نواحي التخطيط لما بعد صدام كان خاطئا. ومن النقاط الهامة التي تفسر ما وصل إليه عراق اليوم بعد التحرير، أعتقد أن التالية جديرة بالذكر:

1 - بالنسبة للجانبين الأميركي والبريطاني، كان ثمة ثقة مبالغ فيها بقدرات القيادات العراقية المعارضة، ولاسيما الأحزاب الشيعية. وكذلك عدم توقع هجمة القاعدة وحجم التدخل الإيراني، إذ كان التصور أن quot;المقاومةquot; ستأتي فقط من أنصار صدام؛

2- شراسة القوى الإرهابية المتعدد الرؤوس، سواء القاعدة أو بقايا بعث صدام، ثم، وخصوصا، المليشيات المسلحة التابعة لإيران؛

3 ndash; برهنت القيادات السياسية العراقية على عدم النضج السياسي، والتفريط بفرص الانتقال بالعراق لعهد ديمقراطي يضمن الأمن والعدالة والخدمات. إن كثرة منها راحت تتصرف بعقيلة غرائزية الثأر ونهم اقتسام ما اعتبروه غنيمة. أما الأحزاب الأكثر نفوذا فبرهن عدد منها على أن ولاءها الأول هو لنظام الفقيه؛

4 ndash; سلبية المواقف العربية، بل، ومعاداتها عند سقوط النظام السابق، سواء على صعيد الجامعة او الإعلام والمنظمات المهنية العربية، أو مراجع الدين التي صار منها من يصدرون الفتاوى تحريضا على ما يعتبرونه quot;مقاومة شرعية ضد المحتل.quot; هذه السلبية كانت في مقدمة الأسباب التي سمحت لإيران بتصدر مواقع النفوذ في كل مجالات الحياة العراقية والإمساك بخيوط العملية السياسية والانتخابية. ولذلك، وبدلا من اللطم على التغلغل الإيراني، فعلى الجانب العربي- وباستثناء من وقفوا مع شعبنا سابقا ولاحقا -
لوم نفسه أولا؛

5 ndash; ثقل تركات النظام السابق من خراب في كل المجالات، خصوص محاربة الشخصيات الوطنية المجربة من مختلف الاتجاهات والمذاهب، فلم تبق في الساحة غير قلة من الشخصيات السياسية المجربة التي تستطيع النهوض بمسئوليات ما بعد صدام.
إن بلير كان شجاعا في تحمل المسئولية والدفاع المبرر عن قرار الحرب، وشهدت له صحف معارضة بشجاعة الدفاع عن قراره، وتبريره بأن النظام الصدامي quot;كان نظاما مروعا ولا يمكننا المخاطرة بالسماح لمثل هذا النظام بتطوير أسلحة دمار شامل، وإذا كان ذلك يعني تغيير النظام، فليكن، وإذا حاولنا التحرك عبر الأمم المتحدة وفشل ذلك، فقد كانت وجهة نظري أنه يتعين التصدي لذلك.quot; وعلى العرب المنتقدين أن لا ينسوا أن صدام كان خطرا على بلدان الخليج أيضا، فضلا، وكما قال الدكتور مأمون فندي قبل الحرب، كانت حياة النظام تعني موت الجسد العراقي وموت النظام حياة للعراق. وكان رالف إيكيوس، أول رئيس تنفيذي لنزع أسلحة الدمار الشامل في العراق، قد حمّل القيادة العراقية الحاكمة وبكل صراحة مسئولية تعطيل مهمات اللجنة الخاصة وعرقلة فرق التفتيش. فاتهمته حكومة صدام بالتجسس وأبدل ببتلر، وأخيرا، جاء السويدي بليكس ليلعب دور التمويه وضياع الوقت، وذلك بتأثير فرنسا وألمانيا وروسيا - وهو ما مر ذكره في مقالي السابق.
وإذا كان دفاع بلير عن قرار العراق مشرفا ودليل خبرة سياسية واسعة، وخلق سياسي رفيع، فإن هذا ما لا يمكن قوله عن فهم أوباما للقضية وموقفه، فقد انفرد من بين حزبه بمعارضة الحرب، وجاء للسلطة وهمه الأول هو الانسحاب، دون أن يبرهن على قدرة تحليلية لفهم الدور الإستراتيجي والجغرافي للعراق، وهو دور لا يقل أهمية عن دور أفغانستان، وليس معنى هذا بقاء القوات الأميركية في العراق، بل وجوب عدم إهمال العراق وتركه لمصيره، فيما إيران تلعب بمقدراته، و المنطقة في حاجة لعراق قوي ومستقل ذي سيادة ومسالم وديمقراطي علماني. ورغم أن أميركا لا تتدخل في الشأن العراقي مثلما تفعل إيران، فإن لها الحق بموجب قرارات مجلس الأمن، ومن واجبها، أن تهتم بما يجري وأن يشغلها مصير العراق، إيجابا أو سلبا .
وكما يخطئ أوباما في الموضوع العراقي، خلافا لتوني بلير، فإنه على ضلال في الموقف من إيران. فقد أمضى عاما كاملا يمد يديه لنظام الفقيه وبنوع من التوسل، ويعطي مهلة بعد مهلة، تتخللها تهديدات لفظية. وبرغم رفض إيران لعروض الدول الكبار 5+1، فأوباما لا يزال يحلم بترويض إيران دبلوماسيا، ويبدو مواصلا السير وراء مناوراتها المتتالية، بدلا من فرض عقوبات صارمة تشل الأجهزة الإيرانية ولا تضر بالجماهير، مع عدم استثناء خيار القوة كحل نهائي يفرض نفسه. فنظام الملالي هو أخطر من نظام صدام، كما يقول بلير، والديكتاتورية الدينية هي أخطر الديكتاتوريات، كما يقول موسوي. وإن إيران الساعية حثيثا للقنبلة، وقد توصلت فعلا، ومنذ شهور، لمرحلة القدرة على تصنيعها. فماذا يفعل أوباما؟؟ إنه ينشر صواريخ باتريوت المضادة والموجود أصلا منذ حرب الخليج الأولى، في عدد من الدول الخليجية، مؤكدا الاستنتاجات التي كانت رائجة منذ منتصف العام الماضي، والتي أشرنا لها مرارا، عن اختياره التعايش مع القنبلة الإيرانية مع تقديم الضمانات للدول الصديقة في المنطقة بحمايتها. وهذه سياسة حمقاء ومغامرة، وكما تقول صحيفة:الفيجارو الفرنسيةquot;، فإن إيران دولة تخيف بلا قنبلة، فكيف لو حازت عليها؟! وهل الجوار مع إيران بقنبلة، وحتى بوجود صواريخ أميركية، هو أضمن لأمن الخليج، أم الجوار مع إيران بلا قنبلة؟ علما بأن إيران، وحتى بلا قنبلة، تلعب دورا تخريبيا في أرجاء المنطقة، ولكن إيران نووية ستكون أخطر بمرات. ويقول بعض المعلقين إن من أغراض أجهزة باتريوت جديدة في الخليج ردع إسرائيل عن ضرب إيران وردع إيران عن ضرب إسرائيل. كما يقال إن اللعبة الإيرانية الجديدة عن التخصيب في الخارج ستجعل الإدارة الأميركية تؤجل من جديد موضوع العقوبات، وستظل تلهث وراء موافقة روسية وصينية لن تأتي، بينما يهمل أوباما حلفاءه الغربيين في أوروبا، الذين لهم موقف أوضح وأكثر حزما في قضية النووي الإيراني. وكما رفض حضور احتفالات برلين بسقوط جدار برلين، فإنه قرر أيضا رفض حضور قمة الاتحاد الأوروبي المقبلة برئاسة إسبانيا.
نكررquot; نعم، إن حرب إسقاط صدام كانت من منطلق حماية المصالح الأميركية والغربية العليا والأمن الأميركي ndash; الغربي، ولكنها كانت حربا حررت شعبا بأسره من الطغيان الدموي، وفتحت فرصا واسعة لإعادة بناء العراق، ولكن القيادات العراقية فشلت في استثمار تلك الفرص، وساهم التدخل الإقليمي وشراسة قوى الإرهاب، في تهميش تلك الفرص ولحد اليوم. وإن قرارات quot;المساءلةquot;، ورفض المالكي- صاحب شعار القانون ndash; ومعه إتلاف الحكيم، لقرار القضاة - أي تحدي القانون علنا ورسميا - تدل على أن العراق لن ينهض قبل عقود من السنين ... واأسفاه!

[ هامش: نشرت في 5 الجاري النيويورك تايمس افتتاحية قوية عن قرار القضاة العراقيين التمييزي ورفض المالكي، واستعملت عبارات خشنة ضده،. كما هاجمت الدكتور أحمد الجلبي quot;كصديق لإيرانquot; وطامع في منصب رئاسة وزراء. وقالت الجريدة إنه، بدلا من محاولات إقصاء المنافسين في الانتخابات، فإن على حكام العراق مناقشة القضايا الأساسية للعراقيين. وأخيرا، حذرت الصحيفة من عودة الاحتراب الطائفي، وهذا ما أستبعده لأن الحملة موجهة أساسا ضد كل من له طابع علماني لهذا الحد أو ذاك وكل رافض للتدخل الإيراني، من شيعة وسنة.