للتذكير أولا:
أ -اقترف نظام صدام حماقات وجرائم كبرى، كحلبجة والأنفال والمقابر الجماعية وعمليات الإعدامات الجماعية وحرب إيران وغزو الكويت وغيرها. جرائم وحماقات ومغامرات ذهب حوالي مليوني شخص ضحاياها. لا يجب نسيان هذه الصفحات الأكثر سوادا ودموية في التاريخ العراق الحديث. ورغم أن النظام الإسلامي الإيراني كان قد قام بسلسلة استفزازات حدودية مع تصريحات عدوانية، فإن مبادرة النظام السابق للحرب كان كارثة على الشعبين العراق والإيراني وعلى المنطقة، والحرب هي التي ساعدت خميني على استغلالها لتصفية القوى اللبرالية والعلمانية واحدة بعد الأخرى، وعسكرة البلاد من خلال الباسداران والباسيج، فضلا عن الجيش النظامي، والاتجاه نحو القنبلة النووية؛
ب ndash; كاد نظام صدام أن يسقط في أعقاب هزيمة حرب الكويت، فقد دعا بوش الأب العراقيين للانتفاضة عليه، واندلعت بالفعل انتفاضة عفوية كادت تطيح بالنظام، ولكن! ولكن تسلل حراس الثورة وأفراد فيلق القدس الإيرانيون، ومعهم المليشيات العراقية التي يسيرونها، وارتفعت في الأجواء شعارات موالية لإيران، وشعارات طائفية مثل quot;ماكو ولي إلا علي، نريد حاكم جعفريquot;، وجرت انتهاكات واسعة على أساس طائفي. وهذا كله مما أرعب الدول الخليجية التي كانت في حرب على صدام، خائفة من الهيمنة الإيرانية على العراق، كما أنه أقلق أميركا نفسها، فتراجع بوش الأب عن دعم الانتفاضة، ولم يعارض استخدام صدام الطائرات المروحية العسكرية التي استخدمها هذا بمنتهى الوحشية للتصدي الدموي الشامل للانتفاضة.
ج ndash; ما أن سقط النظام الصدامي البعثي بفضل القوات المتعددة الجنسيات في يوم 9 نيسان 2003، [ هو نفس اليوم الذي رفضت حكومة المالكي عام 2008 الاحتفال بذكراه!!]، حتى راحت المليشيات والأحزاب الشيعية تستغل الفراغ لاحتكار السلطة وفرض الهيمنة على المجتمع وحياة المواطنين. فبادرت تلك المليشيات لمطاردة وقتل أصحاب محلات الخمور، ومطاردة المسيحيين والصابئة المندائيين، وتنظيم المحاكمات الاعتباطية quot;الشرعيةquot;quot; والاستيلاء على القصور وممتلكات الآخرين والدولة. وفي الأسابيع الأولى بعد سقوط النظام السابق، نشرت مقالا بعنوان quot;هل يريدونها طالبان جديدة؟!quot;
وفي الرابع من يناير 2004 توجه أكثر من 100 مثقفة ومثقف عراقي، غالبتهم العظمى من الشيعة، بمذكرة صريحة إلى آيات الله والمراجع الدينية كافة، وإلى مجلس الحكم والوزراء، وقادة الأحزاب، وبول بريمر، وإلى كل الوطنيين العراقيين. وقد تم نُشر المذكرة على نطاق واسع، وكان لي شرف أن أكون بين الموقعين. وأرى للتذكير إيراد فقرات من تلك المذكرة:
تقول المذكرة في بدايتها:
quot;يساور العراقيين قلق شديد عما تنشره وسائل الإعلام من أنباء موثقة عن جرائم مروعة ترتكبها جماعات إسلامية شيعية، مخترقة من البعثيين، في محافظة البصرة، وأماكن أخرى، تحمل أسماء مثل quot;ثأر اللهquot; وquot;حزب اللهquot; وquot;منظمة قواعد الإسلامquot;، ضد طالبات المدارس والجامعات وفرض الحجاب عليهن بالقوة، بمن فيهن المسيحيات، ومضايقة السافرات في الشوارع بعدوانية شرسة. والأسوأ من ذلك، أنهم يقومون بترويع إخوتنا المسيحيين وتهديدهم بتغيير دينهم وقتل باعة الخمور منهم. إن مهنة بيع الخمور مورست في البلاد الإسلامية منذ فجر الإسلام، مرورا بجميع مراحل دولة الخلافة الإسلامية وإلى الآن، ولم تصدر أية مرجعية دينية فتوى بتجريم هذه المهنة أو منع من يمارسها. والجدير بالذكر أن آية الله السيستاني قد صرح في الأسابيع الأولى بعد سقوط النظام الفاشي، أن فلول البعثيين الصداميين تسللت إلى تجمعات ومؤسسات شيعية.quot; ونضيف أن ناطقا باسم المرجعية رد عام 2004 ردا صارما على حسن نصرالله الذي أيد فتنة جيش المهدي في النجف، وانتقد المرجعية لعدم دعم الفتنة الصدرية ولصمتها عن تصدي حكومة الدكتور علاوي لهم. وكررت المرجعية من جديد ذكر حقيقة تسلل صداميين إلى عصابات الصدر.
وقد توقفنا كثيرا في المذكرة عند ظاهرة اضطهاد المسيحيين، وقد كتبت شخصيا في ذلك عدة مقالات- علما بأن اضطهاد المسيحيين انتقل إلى الموصل على أيدي المتطرفين من السنة والقاعدة، ولا تزال مطاردة مسيحيي الموصل مستمرة، وضرب كنائسهم شبه يومي، من دون أن تتخذ السلطات المحلية أي إجراء جدي لوقف هذه الحملة ضد أهل العراق الأصليين.
د ndash; كادت القوات الأميركية والعراقية زمن الدكتور علاوي أن تقضي على جيش المهدي، ولكن الدكتور الجلبي أسرع إلى لندن لإقناع السيد السيستاني [وكان في المستشفى]، للعودة للنجف، فعاد، وكان ما نعرف من زحف الجماهير من الكوفة، وعقد هدنة ملغومة، خرج الصدريون على أثرها من المسجد العلوي بكامل سلاحهم وهم يهتفون بصيحات النصر. وقد حذرنا في حينه من تلك الهدنة وسميناها ملغومة، وكتب غيرنا أيضا محذرا. وكان التحذير في محله بدليل ما وقع فعلا بعدئذ من فتن صدرية دموية في بغداد والبصرة ومدن جنوبية أخرى. وللتذكير أيضا، فإن السيد إبراهيم الجعفري احتج بشدة على قصف الطائرات الأميركية لمواقع القاعدة في الفلوجة في العام نفسه، وتحت الضغط، أصدر مجلس الحكم بيانا يدعو لوقف أي قصف جوي في الفلوجة وإلى حل الفتنة سلميا!! وكان حجة الإسلام على الشيرازي، وهو رجل دين إيراني إصلاحي، قد صرح بعد زيارة للنجف إن جيش المهدي قصف قبة الإمام علي وبيوت المراجع الكبار في النجف.أما قائد شرطة النجف عهد ذاك، فقد خطف الصدريون أباه الثمانيني، وجروه في الشوارع، وضربوا أشقاء مدير الشرطة، وقتلوا 40 من رجاله وقطعوا رؤوس عدد منهم. وأضاف قائد الشرطة للصحافة في حينه بأن أتباع الصدر فقأوا أعين بعض الضباط وسلقوها في ماء مغلي!!
لماذا التذكير بما مر؟ إنه للبرهنة على أن ما اقترفه هؤلاء في ذلك الوقت، بل ولحد اليوم، ليس أقل دموية من القاعدة والبعثيين الصداميين، ولكن أحزابهم لم تعترف يوما بالمسئولية عما وصل إليه الوضع العراقي البائس. ورغم مرور حوالي سبع سنوات على سقوط صدام فإن هذه الأطراف التي تهيمن على السلطة لم تقدم البديل الأفضل للناس.
انظروا لما تقوم به محافظة النجف، حيث معقل المرجعية، وانتهاكها للقضاء وخروجها عن صلاحياتها، وذلك بإنذار من تعتبرهم بعثيين لخرجوا حالا وإلا فهو العقاب! لو كان الإنذار لإرهابيين فلا داعي له لأن على سلطات الأمن والقضاء ملاحقتهم بدون إنذارات وإخراج المظاهرات الصاخبة في التحريض، ربما على القتل أيضا. ألا تذكرنا هذه الأساليب، وكما قال بحق الأستاذ حسين كركوش، بممارسات صدام، أو فلنقل، بممارسات الباسيج والباسداران الإيرانيين؟؟ وأيا كان الموقف من مظفر العاني، فالقضاء وحده يجب أن يحكم لو كان ما صدر عنه جريمة. أما تعليق صورته في الشوارع، وتحتها quot;مطلوب للعدالةquot; فممارسة صدامية بامتياز، بل هي دعوة للقتل.
كما أحسن الأستاذ حسين كركوش في التوقف بإمعان لدى فقرة الدستور التي يستند إليها السيد علي اللامي في إصدار فرمانات العزل والإقصاء، وهو نفسه من كان قد اعتقل بتهمة قيادة تنظيم مرتبط بإيران مسئول عن قتل 6 عراقيين و4 أميركيين، وصار اليوم يرأس هيئة لم تتخذ بعد صفتها القانونية والبرلمانية.
كيف تكون الدعاية لبعث صدام؟ هل، مثلا، في القول بأن الفساد اليوم صار أضعافه أيام صدام؟! أو أن الخدمات كانت أفضل؟! هل هذه دعاية بعثية؟ أم هي إقرار للحقيقة؟؟ وقد سبق لي أن نشرت عاما 2005 مقالا علقت فيه على تحقيقين ميدانيين لمراسل النيويورك تايمس في بغداد. وكان قد تنقل بين عدة مناطق من العاصمة، والتقى بناس من شيعة وسنة، وبأسمائهم الصريحة. جميعهم كانوا يتشكون من عمليات الخطف والقتل والتهجير الطائفي، واجمعوا على أن الوضع صار أسوأ من أيام صدام. لم يكونوا في الواقع يحنون لذلك العهد، ولا ينسون جرائمه الكبرى، ولكنهم كانوا يعبرون عن مشاعر القلق والإحباط والسخط. وقد نشر الصحفي الأميركي نتائج التحقيق تحت عنوان صارخ جدا، وهو- كما أتذكر- quot;عراقيون يحنون لجلادهمquot;. والحقيقة، وكما قلت، إنه لم يكن حنينا لذلك الجلاد، بل كان تعبيرا عن الخيبة والمرارة . فهل كانت تصريحاتهم دعاية لصدام؟! بالطبع لا، ولكن هي كذلك بمعايير اليوم، التي تأخذ بها هيئة المساءلة و محافظ النجف، وأطراف نافذة في الحكم.
ملاحظة: بعد كتابة هذه السطور وصل بايدن نائب الرئيس الأميركي لبغداد للتشاور حول القضية، كما أدلى الرئيس العراقي بتصريحات عن التمييز بين البعثين رفضها حزب الدعوة والمالكي، وسوف تجتمع الهيئات الرئاسية الأربع للمداولة في الموضوع، وثمة اقتراح باستعادة الممارسة المدانة القديمة بتقديم البراءات، والتي سبق استخدامها ضد الشيوعيين. ومقالنا التالي سوف يتناول هذه التطورات.
التعليقات