يزداد الجو السياسي العراق سخونة وتشنجا مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، فيما تتواصل العمليات الإرهابية الأثيمة في إيقاع العشرات من الضحايا، وآخرها في النجف الشريف. التسخين دشنه السيد رئيس الوزراء منذ تصريحاته عن استخدام ما لديه من quot;صلاحيات دستوريةquot; quot;لمنع وصول البعثquot; للبرلمان والسلطة. وكما كتبنا في مقال سابق، فإن هذا التهديد جاء بعيد تأسيس التحالف الانتخابي بقيادة الدكتور علاوي. تبع ذلك قرار من رئيس ما يدعى بهيئة المساءلة بمنع 14 كيانا سياسيا و400 شخصية من المشاركة في الانتخابات، وجاءت آخر الأنباء بأن العدد هو 500، والغريب ما تردد عن وجود وزير الدفاع بينهم! فلو صح وجوده، فقضيته أكثر غرابة من قضية المطلك. ويقال إن الشطب على وزير الدفاع هو لتبرير شطب الآخرين؟؟ فلننتظر قبل الحكم. كل ذلك دون تقديم أية إيضاحات ودلائل موثقة لتبرير القرار المذكور. ولا يزال الرأي العام العراقي والخارجي على جهل بذلك، ماعدا عنوان quot;البعثيةquot; الفضفاض.
كما فوجئنا بتصريحات متشنجة ونابية للسيد ظافر العاني موجهة ضد السيد رئيس الجمهورية، وهو الرجل القدير الذي برهن على جدارته الكاملة بالرئاسة، وتصرفه كعراقي أولا، رغم قيادته لحزب كردستاني معروف، وما يتحلى به من خلق عال، ومن روح التسامح، والدور المشرف الذي قام به، قبل تحرير العراق وبعده، وحرصه المشهود له به على تجميع الصف الوطني. ويقينا عندي، أننا لا نجد اليوم شخصية غير طالباني لرئاسة الجمهورية من جديد. وقد كان من حق السيد رئيس الجمهورية أن ينزعج ويشعر بأنه جرح. مع ذلك، فقد كنت أتمنى على الأستاذ مام جلال أن يأتي بيان مكتبه الصحفي هادئا، وفي الصميم، فالرد الهادئ هو الأقوى دائما، والأنسب.
نعم، من حق البعض الشكوى من بعض حالات التعامل الفج والتمييزي أحيانا مع العرب في إقليم كردستان، ونعم هناك ميول قومية ضيقة لدى بعض شرائح الشارع الكردي وفريق من المثقفين الكورد. هذا غير مستبعد، وهذه ظواهر مدانة. ولكن هنا تبدو فرادة شخصية طالباني وعقليته وتصرفه، إذ هو ذو حس وطني عراقي عال وباعتراف كل من تعاملوا معه من ساسة العراق، ومن مختلف الاتجاهات. إن الميول القومية الكردية الضيقة هي مرفوضة ومدانة، مثلما تجب إدانة الميول الشوفينية العنصرية العربية، التي كان صدام رمزها الأول. أذكر هذه الأحكام بكل نزاهة وتجرد، ومن دافع وطني عراقي صرف.
ثم نفاجأ بحركات عسكرية صاخبة في بغداد، وإعلان حالة الطوارئ، وما سببه كل ذلك من انتشار الشائعات المقلقة بين الناس. وخلال ذلك جرت مداهمة مقر النائب المطلك في انتهاك تام لحصانته النيابية. وتبريرا، قال المسئول العسكري عن المداهمة إنها كانت من أجل quot;حمايةquot; المطلك، ثم قيل إنها كانت للبحث عن أحد المطلوبين للعدالة!! عجيب حقا. لو كان هناك خطر على النائب المذكور، لكان واجبا إبلاغه مسبقا وتقديم عرض حمايته. أما مباغتته بحجة الحماية، فهي مجرد استفزاز ومحاولة ترويع لا غير- مع التأكيد مجددا على اختلافنا التام مع الاتجاه السياسي للسيد المطلك. وأما حجة البحث عن مطلوب في مكتبه، فالعذر يبدو لي أغرب من الفعل. وكل ما أخشاه حقا هو أن تشهد الساحة العراقية المشحونة والمحتقنة هذه الأيام عمليات اغتيال سياسية، لهذا أو لذاك، لتزيد من تلبد الأجواء، ولتهدد الأمن أضعافا.
لقد هدرت وضاعت كثرة من المقاييس السياسية السليمة في عراق اليوم. فاستخدام quot;هيئة المساءلةquot; بالطريقة الجارية يذكرنا بممارسات هيئة quot;حراس الدستورquot; الإيرانية، التي استثنت المئات والمئات من المرشحين في الانتخابات البرلمانية السابقة، كما لها صلاحية إقصاء من تريد من الانتخابات الرئاسية. ولكن الهيئة العراقية راحت أيضا تستثني quot;كياناتquot; وليس مجرد أشخاص. ومن العجب أيضا اختيار شخص كان معتقلا لدى القوات الأميركية بتهمة قيادة مجموعات مسلحة تابعة لإيران لرئاسة الهيئة العراقية المذكورة. كما أنه مما يلفت النظر عدم إقصاء شخص هو مطلوب للقضاء العراقي بتهمة جنائية منذ أواسط نيسان 2003، أي تهمة تدبير جريمة اغتيال الشهيد عبد المجيد الخوئي ورفيقيه في الحرم الحيدري. كذلك العفو عن رئيس المنظمة الإرهابية، عصائب أهل الحق، التي خطفت ستة بريطانيين من وزارة المالية ونقلتهم لإيران، وقتلت خمسة منهم، والعفو معه عن أفراد العصابة ليلتحق كثرة منهم بما يدعى بالتيار الصدري. ويظهر أن هؤلاء هم quot;مجاهدونquot; بمعايير الأحزاب الدينية الحاكمة، وهو الوصف الذي أطلقه رئيس اللجنة القانونية السيد بهاء الأعرجي على قيس الخزعلي.
إن أجواء التشنج والتشكيك والاتهامات الصاخبة قبيل الانتخابات ليست لمصلحة العراق، وتسئ لمكانة الحكومة نفسها ولمختلف القيادات السياسية، وتلقي بظلال من الشك منذ الآن على نتائج الانتخابات. وهي تدل على قلق بعض القوى الحاكمة وشخصياتها، بل على الهلع، من احتمالات الإخفاق في تحقيق المطامح والآمال الخاصة!