ثانيا: الموقف من بريطانيا..

الحلقة الأولى

إن الدول الغربية الأخرى، غير أميركا أوباما، قد تقع أحيانا- [وليس كخط عام كما يفعل اوباما]- في منطلقات وتحليلات مبسطة مبنية على أوهام، فتتخذ مواقف خاطئة ترتد عليها في آخر المطاف. وآخر مثال هو الموقف الفرنسي خاصة، والمدعوم من بوش واوباما، في التعامل مع النظام السوري، بأمل إضعاف تحالفه القوي والتابعيّ مع النظام الإيراني، والمساعدة على استرجاع أمن لبنان وسيادته. فما الذي وقع فعلا؟ سوريا استوردت من إيران، ولحساب إيران، أجهزة رادار متطورة خلافا لقرارات مجلس الأمن. أما لبنان، فقد سعل النظام السوري عمليات نقال أسلحة متطورة لحزب الله جنوب لبنان في مناطق عمليات قوات اليونيفيل الدولية. وقد عاد لبنان سياسيا لأحضان السياسة والحسابات السورية والإيرانية، ومن يسمع الرئيس اللبناني يتصور أن المتكلم هو حسن نصر الله. وسلاح الأخير، غير الدستوري، قد صار ينظر له كسلاح الدولة رسميا. وها هو حزب الله يحرض أنصاره ومؤيديه على مهاجمة القوات الدولية، والحدث الأخير هو الاعتداء على الوحدة الفرنسية بالذات بالعصي والحجارة وجرح بعض أفرادها، وتجريدهم من السلاح. فأية هدية سورية لسركوزي! وأي جزاء هو كجزاء سنمار! وكما هو متوقع، فقد انضمت الدولة اللبنانية برمتها لتحميل قوات اليونيفيل مسئولية الاعتداءات. وقد انتقد هذا الموقف الأستاذ عبد الله إسكندر في quot;الحياةquot; بتاريخ 4 الجاري. فالسلطة اللبنانية، كما يكتب، تبرر كل ما يفعله حزب الله من موقع الخضوع quot; إلى حسابات سياسية محلية تتعلق بالتأثيرات الإقليمية المتزايدة، خصوصا الإيرانية السورية...quot;

نعم ، قد تقع الدول الديمقراطية في التبسيط والأوهام، وأحيانا مخادعة النفس، كما في التعامل مع المتطرفين الإسلاميين ودعاة العنف. ولكن حالة السياسة الأميركية الراهنة هي من طبيعة أخرى، وهي تخص أساليب ومواقف أوباما بالذات.

بعد نشر مقالنا، عالج أمير طاهري الموضوع من زوايا أخرى، وهي عن أفغانستان، وقضية الجنرال ماكريستال، واستنتج أن أوباما: quot;يطرح الكثير من الأسئلة أولا وفي النهاية لا يطلق النار على الإطلاقquot;، فهو لا يلتزم للنهاية بأية قضية، ولا يريد النصر في أية حرب حتى ولو كان يعتبرها quot; حربا جيدةquot; قاصدا أفغانستان [عكس الحرب quot;السيئةquot; في العراق]، وإن الفكر عنده أكثر أهمية من الواقع. فهو يريد الانسحاب من أفغانستان في العام القادم في حين أن جنرالات الميدان كان لهم موقف آخر لأن هناك سنوات أخرى قبل النصر. وأما العراق، فإن واشنطن لم تعد تعيره غير أهمية ثانوية، وسوف تتركه القوات الأميركية في فوضى، فيكون فريسة كاملة لإيران، ومنفتحا على أخطار الحروب الأهلية والتقسيم. وفي الحالتين، الأفغانية والعراقية، فإن ما وراء مواقف أوباما هو التفكير في تجديد الرئاسة عام 2012، ومثالياته التبسيطية.

وبالعودة للمقارنة بين الانعطاف الودي للغاية نحو موسكو وزعمائها بالبرودة نحو حلفاء أميركا الثابتين، في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، فقد كتبنا، ومرارا، كيف أن أوباما كاد أن يهمل الحلفاء التقليديين الراسخين لأميركا، حتى أن وثيقته الأمنية الإستراتيجية لم تكد تذكر الاتحاد الأوروبي، بينما أكثرت من التأكيد على العلاقات مع روسيا والصين وغيرهما. كما أشرنا لحدث امتناع أوباما عن حضور الاحتفال في برلين بسقوط جدارها، وعن حضور قمة الاتحاد الأوروبي، وبدلا، راح مسافرا إلى أندنوسيا- من بلدان نشأته- وإلى الصين.

أكلة الهمبرغر مع ميدفيديف تعيد للذهن ما كان أوباما يبديه من فتور لحد التجريح نحو غوردون براون، رئيس الوزراء البريطاني السابق، برغم محاولات الحكومتين نفي ذلك. وكان براون قد ألقى خطابا، حال فوز أوباما، محذرا من مواصلة رفع شعارات كان يستخدمها الرئيس الأميركي خلال الحملة الانتخابية. كما أن سركوزي ، من جانبه، ركز على ما اعتبره أوهام أوباما بإمكانية عقد اتفاق مع الخمينيين الحاكمين، وحذر من الاستخفاف بخطورة امتلاك إيران قنبلة نووية. وتأتي بقعة النفط الخام في خليج المكسيك لتكشف للعيان أن لأوباما درجة من المشاعر السلبية الحادة تجاه بريطانيا بالذات، وربما هي سلبية نحو quot;القارة العجوزquot; ككل- مع تأكيدنا على خطورة هذه المشكلة النفطية، التي هي كارثة كبيرة للبشر والطبيعة. وقد مر بالحدث مرورا أمير طاهري في مقاله المذكور، متحدثا عن ابتزاز الشركة quot;على طريقة شيكاغوquot;!

لقد تناول هذه القضية محللا ، وفي مقال لاذع جدا، الأستاذ عادل درويش في quot;الشرق الأوسطquot; ،بعنوان quot; خطاب أوباما بين الديماغوجية والتطبيقquot; [*هامش]. ونحن نتوقف لدى المقال لإلقاء مزيد من الضوء على أساليب الرئيس الأميركية، وقضية بقعة النفط تكشفها أكثر.

لقد أشار الكاتب إلى عمليات أوباما الاستعراضية على رمال الشاطئ، حافي القدمين أمام عدسات التلفزيون، وماسكا بكتلة رمال لصقت بها بقعة بترول، وهو يشن حملة هوجاء متواصلة على الشركة البريطانية، مستخدما عبارات مثل شركة quot; البريطانية تعتدي على الشواطئ الأميركيةquot;، وغيرها من شعارات ديماغوغية تهييجية للعوام. ويذكر الكاتب أن حملة أوباما ضد الشركة البريطانية راحت تتحول لدى شرائح واسعة من الأميركيين إلى حملة كراهية لبريطانيا والإنجليز. وحتى هوليوود، راحت تخرج من جعبتها أفلاما قديمة تصور الإنجليزي كأرستقراطي جلف وكمتآمر وجاسوس. الشركة البريطانية دفعت عشرات المليارات لمعالجة المشكلة، وانهارت أسهمها التي يشترك فيها قطاع واسع من المتقاعدين وذوي الدخل المتوسط. ولكن ما لا يقوله أوباما ومساعدوه هو أنه، إذا كانت الشركة القابضة هي البترول البريطانية، فإن الشركة التي كانت تدير محطة حفر بئر النفط في الخليج هي شركة quot;ترانز أوشانquot; الأميركية، والمهندسون العاملون، الذين أدى خطؤهم للانفجار، كانوا جميعا أميركيين. وإن الصمامات والأنابيب، التي أدى [للحدث] خطأ تصميمها، مصنوعة في أميركا وبمواصفات أميركية. ورغم كل هذه الحملات، يعود الرئيس الأميركي اليوم ليعلن أنه يرغب في استمرار عمل الشركة!

نرجو أن يلاحظ القارئ أننا توقفنا لدى بعض القضايا الخارجية. فلم نتطرق مثلا لموضوع القضية الفلسطينية، التي نشرنا عنها أكثر من مقال. كذلك لم نتوقف كثيرا لدى النووي الإيراني، والتخبط الأميركي عاما ونصفا، وصولا لعقوبات quot; لا تقدم سوى أنصاف الحلول، حيث أنها لا تقتل العدو، ولا تقنعه بأن يكون صديقا.quot;.

إن غرض مقالنا هو محاولة قراءة مفاتيح السياسة الخارجية الأميركية الجديدة، رغم أن هناك ثوابت لا يستطيع أي رئيس أميركي الخروج عنها حتى لو أراد. أما توصيف سياسات أوباما إجمالا، داخليا وخارجيا، فهل يمكن الاتفاق مع رأي أمير طاهري القائل:

quot;تهدف سياسات أوباما إلى خداع اليسار، وإرباك اليمين، وجعل المواطن العادي يتساءل عما يحدثquot;!!؟؟؟

[* هامش: رغم أن مصطلحي quot; شعبويةquot; وquot;ديماغوغيةquot; غير متطابقتين تماما إلا أنهما تستخدمان أحيانا كمترادفات. والمتهمون بالظاهرة يلعبون على مشاعر العامة ويتملقون غرائزهم، ومصادر تذمرهم بدافع كسب الشعبية. وهم يستغلون أوقات الأزمات خاصة لللعب على الأوتار الحساسة. وفي كثير من الحالات يكون الهدف عالم المال ورموزه. ففي بقعة النفط، لم يكتف إعلام اوباما بهتك ناموس الشركة الإنجليزية، وتكبيدها خسائر بمائة مليار دولار من الأسهم، بل ضاعف البيت الأبيض من حملة تشويه سمعة رئيس الشركة عبر إدانة قضائه يوما على متن يخته في جزيرة وايت. وهاجم كبير موظفي البيت الأبيض رئيس الشركة، ووصف الشركة بكونها غير راغبة في التعاطي مع حجم الكارثة- علما بأن الشركة صرفت 39 مليارا لمعالجة آثار الكارثة، التي هي مروعة حقا وتسبب الآلام والأضرار الكبرى للبشر والطبيعة. ولو عدنا للحملة الانتخابية، وانفجار الأزمة المالية خلالها، لقرأنا التالي: حملة أوباموية شرسة ضد عالم المال، ولكن ذلك لم يمنعه من تلقي المساعدات المالية لحملته من بنوك الوول ستريت! وهذا ما كشفته، في حينه، صحيفة الفيجارو الفرنسية في عددها بتاريخ 10 أكتوبر 2008. ففي تعليقها على مناظرة بين أوباما وماكين، أشارت الصحيفة، بنوع من السخرية، إلى البنوك الثلاثة التالية التي ساندت حملة أوباما الانتخابية. وهي [غولدمان ساش]، و[فاني ماك]، و [فريدي ماك]. والبنكان الأخيران هما اللذان انطلقت منهما شرارة أزمة الائتمان. كما نشير لتقرير إيلاف في 2 سبتمبر 2008 عن الضجة حول مزاعم عن دعم الملياردير العراقي الأصل نظمي أوجي للحملة، وتهديدات محامي أوجي، المتهم بإدارة أموال صدام ورئيس عربي آخر لا يزال حيا.]