ماذا يجري في عراق ما قبل الانتخابات؟

يبدو أن الانتخابات القادمة قد فجرت السرائر والمكنونات الباطنية لبعض الجهات السياسية الحاكمة، وأقصد بالضبط الأحزاب الشيعية. والباطن والمكنون هو السير الحثيث، ومهما كانت الأساليب والطرق، نحو إقامة دولة الاستبداد الديني الطائفية، المرتبطة بإيران الفقيه. لا تهم الأساليب والطرق، ولو بتزوير الانتخابات منذ الآن: بالإقصاء والاعتقال والفتل والتحريض عليه وتسيير مظاهرات الغوغاء، واستخدام قناة الدولة لهذه الأغراض. هل هو استنساخ لتجربة الانتخابات الإيرانية؟؟!!
لقد تفجر كل شيء اليوم، ولكنهم كانوا يخطون خطوة بعد أخرى نحو الهدف المكبوت، ولكنه المتطابق مع برامج الأحزاب الدينية وأهدافها البعيدة .
فجأة اكتشفوا عشرات الآلاف من البعثيين الصداميين في اللوائح الانتخابية ودوائر الدولة، ممن quot;يهددون بعودة حزب البعث للسلطةquot;، ويرمون الانقلاب على الدولة- وكيف تقوم انقلابات والقوات الأميركية موجودة؟!
انقلب أصحاب سيادة القانون على شعاراتهم بممارسة أساليب التخويف والتهديد وتهييج الشارع تحت شعار لا لعودة حزب البعث، ولم يتورعوا عن توزيع مقالات تتهم أميركا بالتخطيط لعودة النظام البعثي، ولم يتردد أحد المتظاهر quot;البدريينquot; عن أن يكتب على العلم الأميركي كلمة [ البعث]. وثمة اعتقالات وبداية حملة اغتيالات، وحملة quot;اجتثاث للآثار الفنيةquot;، كما يعبر الأستاذ رشيد الخيون.
محافظة البصرة تهدد بقطع النفط وإعلان البصرة إقليما فيدراليا ما لم يُجتث البعثيون من دوائر الدولة والانتخابات، وحركات مماثلة في النجف، ومحافظة ذي قار تهدد باللجوء للسلاح، وquot;حكومةquot; ميسان تفتح سجلا وتحث الناس على تسجيل دعاوى قضائية ضد من يعتبرونهم بعثيين. ولماذا الآن؟؟!! وكل هذه المحافظات تديرها الأحزاب الدينية إياها، ولاسيما حزب الدعوة. وأما المرجعية الدينية فساكتة.
إن إقصاء عشرات الآلاف، ممن كانوا يوما ما بعثيين لسبب ما أو مناصرين، من الوظائف جريمة كبرى بحق العدالة والمواطنة وحقوق الإنسان. ولكن يظهر أن المالكي مصر على خلق جو الإرهاب والرعب والتسبب في مآسي جديدة تطال هؤلاء المطاردين ظلما وعائلاتهم وقطع أرزاقهم - وكأن مآسينا الراهنة لا تكفي، وكل ذلك لكي يبقى في منصبه ولإخفاء فشله.
ترافق كل هذا بداية حملة تشويش وتحريض إعلامية في الخارج ضد من ينتقدون حكومة المالكي، وتشويه كلامهم، والتطبيل لشخص المالكي، الذي هو زعيم حزب إسلامي لم يغير برنامجه الإسلامي القديم، والذي بلغ الفساد في عهده درجة جعلت العراق في مقدمة دول الفساد.
وكانت أخبار ما قبل شهور تحدثت عن اتصالات رسمية من بغداد مع صحفيين في لبنان لهذا الغرض، أي الدعاية والتشويش، وعلق، في حينه، كاتب معروف بمقال عنوانهquot; على خطى صدامquot;- [ يقصد الكوبونات]. وتحدثت آخر الأنباء عن تشكيل أكثر من مكتب إعلامي في بعض العواصم الغربية الكبيرة للغرض نفسه.
أسئلة كثيرة تنتظر الجواب: كيف تسرب آلاف البعثيين لوظائف لو كانوا خطرا حقا، ومنهم من أعادهم المالكي نفسه وسلمهم مناصب حساسة؟! أليس هذا بحد ذاته، لو كان خطرهم حقيقة، إدانة للحكومة نفسها لكونها أعادت quot;العدوquot; ليتآمر في خطة انقلابية لعودة حزب البعث؟
أما الحملة التهجمية على الجانب الأميركي، فتلك حماقة كبرى، وتتويج لكل ما يجري من مهازل ومآسي وخطايا. ولعل هؤلاء قد نسوا فجأة من أسقط نظام البعث الصدامي حين كانوا هم موزعين في الآفاق! لم تسقطه، مع الأسف، التضحيات الغالية لشعبنا على مدى عقود، ولا خطط انقلابية للمعارضة فشلت، ولا quot;صناديقquot; انتخاب لم تكن موجودة؛ بل تضحيات قوات التحالف والأميركية خاصة. فقد مارس نظام صدام من الأساليب أكثرها وحشية وهمجية ودموية، مما جعل التدخل العسكري الخارجي هو الحل الوحيد لتحرير شعبنا منه.
من يجهل هذا؟ إن الحملة الغوغائية ضد الولايات المتحدة، وموجة ترويج الإشاعات والاتهامات ضدها، موقف هو في غاية الخطورة وهو، وكما قال نائب مستقل، فخ يدفعون العراق إليه، ولو استمروا فالنتائج غير معروفة، ولكنها ستكون كارثية لا لمصلحة العراق والمنطقة، بل تدخل في مصلحة نظام الفقيه ndash; باسداران، الذي يتمادى في تحدي العالم. ونتذكر كيف كان السيد المالكي يزايد خلال التفاوض حول الاتفاقية الأمنية، وصرح مرة، حال رجوعه من إيران، بأن المفاوضات quot; في طريق مسدودquot;، كما نعرف كيف نظم مهرجانات النصر والقعقعة بالطبول وقصائد المديح الحماسية حين نفذت القوات الأميركية بعض بنود الاتفاقية بالخروج من المدن، فاستحق موقفه عدة مقالات انتقادية ساخرة من عدد من الكتاب العراقيين.
ليس عندي حول المبعدين انتخابيا ما أضيفه إلى ما كتبه غيري، وقبلي، من مثقفين ديمقراطيين عراقيين معروفين، أمثال الأساتذة كاظم حبيب وحسين كركوش وحميد الكفائي وعدنان حسين ورياض الأمير وغيرهم، وكل ما يمكن قوله هنا هو السؤال نفسه: لماذا الآن؟ وأين كانت الأحزاب الحاكمة ورئيس الوزراء؟! فالقضية مسيسة وانتخابية لا قانونية ndash; أي وجوب التحقيق مع من اقترفوا جرائم سياسية، أو جرائم أخرى يعاقب عليها القانون، أو من لهم نشاط علني أو سري تآمري لعودة نظام البعث، وكان هذا يجب أن يجري قبل حقبة الانتخابات. ولكننا نعرف أن أيا من المبعدين لم يقدم للقضاء! وكان بريمر نفسه قد شكا عام 2004 من استخدام الاجتثاث لطرد آلاف المدرسين من التعليم، وفي السنة الماضية اعترف للشرق الأوسط بأنه أخطأ بوضع هيئة اجتثاث البعث في أيدي سياسيين أساءوا الاستعمال، بدلا من هيئة قانونية من قضاة ومحامين. فالمسألة قانونية، أي النظر في من اقترف جريمة ومن لم يقترف.
إن الخوف من خطر بقايا بعث صدام، بجناحيهم، مشروع، وجرائم صدام بلا حساب، وليس المالكي وصحبه وحدهم من قالوا هذا ويقولونه. ولو كانت هناك مؤامرة ما بعثية لقلب الحكم، لوجب إعلان ذلك،، وتقديم المسئولين عنها للمحاكم. أما ترك الحساب الانتخابي لهيئة غير قانونية ومسيسة، فهو ما قاد العراق إلى الوضع الراهن البالغ في الخطورة.
ترى، هل حقا هذا ما جرى في إيطاليا وألمانيا بعد سقوط النازية والفاشية؟ في إيطاليا لم يعزلوا غير 1500 عضو فقط من الحزب الفاشي، وكانوا بالملايين، وفي ألمانيا لم يحاسبوا جميع أعضاء الحزب النازي، بل جزءا محمدا منهم، وكانوا أضعاف عدد بعث العراق، وجرائم هتلر فاقت أضعافا جرائم صدام، وما تحاكم عليه اليوم المحاكم الألمانية أو الإيطالية وغيرها هي نشاطات عملية فعلية لصالح النازية والفاشية، والدعوة لعودتهما علنا، سواء في وسائل إعلام أو في مظاهرات استفزازية مثلا. ومن مجموع ما قيل عن مليوني بعثي، فإن أقلية صغيرة جدا لا تتجاوز الواحد بالمائة ndash; حسب المطلعين- هم المذنبون.
لو كان القضاء العراقي هو الحكم، وكان مستقلا حقا، أي الأخذ بالمعايير القانونية، لكان مقتدى الصدر أول من يجب اجتثاثه لأن عليه أمر إلقاء قبض قانوني منذ 10 نيسان 2003 بتهمة التحريض على القتل، وتمكن إضافة تهم قيادة فتن واضطرابات مسلحة في بغداد والنجف والبصرة ومدن أخرى، أدت إلى سقوط المئات من العراقيين بين قتيل وجريح. وأرجو بالمناسبة، من الدكتور الفاضل إياد علاوي أن لا ينسى جرائم هؤلاء، وأن يكف عن الدفاع باستمرار عن الصدريين المعتقلين. كما يعرف العراقيون لماذا أسس الصدر quot;لواء الحق الموعودquot;؟ فهل من صالح العراق، وهل مما يتفق مع الاتفاقية الأمنية، مهاجمة القواعد والقوات الأميركية، أو خطف وقتل أميركيين أو بريطانيين، كما تفعل عصائب أهل الحق- [ التي يقول رئيس اللجنة القانونية البرلمانية، وهو صدري، بأن زعيم هذه العصائب quot;مجاهدquot;] ؟؟!
إن المالكي وحلفاءه قلقون من نتائج الانتخابات، ولا ندري لماذا ما دامت انتخابات حرة وإرادة الناخبين يجب احترامها، ولكن الحكومة تعرف جيدا مدى الاستياء من أدائها خلال سنوات حكمها ومن كانوا قبلها، وهم يخشون اهتزاز هيمنتهم. وليس مستبعدا أن يصوت بعض الناخبين لمنافسيهم، ربما لا حبا بهم، بل نكاية بالأحزاب المذكورة وإعرابا عن خيبة الأمل والمرارة من فشل سياساتها.
السيد المالكي نفسه كان قد أدلى في مارس 2007 بتصريح عن وجوب [المصالحة] مع البعثيين غير الملطخة أيديهم بالدم، وتصريحه أثار في حينه خوفا من أن تكون نيته المصالحة مع بقايا حزب البعث الصدامي. وقبل أسابيع قليلة أثنى على بعثيين تسلموا وظائف هامة وبرهنوا على الإخلاص والكفاءة كما قال علنا فما عدا مما بدا؟! والسيد الحكيم طالب بمشاركة البعثيين غير الملطخة أيديهم في الانتخابات. فلماذا هذه التقلبات البهلوانية؟!
وجوب مصالحة quot; الذين اضطروا إلى العمل مع النظام السابقquot; وطي quot;صفحة هذا الجزء المظلم من تاريخ العراق.quot;: هذا ما قاله رئيس الوزراء في 3 مارس 2007. وقد علق الدكتورعبد الخالق حسين في حينه. فكتب - وبعد رفض واستبعاد المصالحة مع البعث كحزب وهو رفض عراقي متفق عليه -:
quot;ما فهمته من تصريحات السيد المالكي أنه دعا إلى المصالحة مع الذين تعاونوا مع النظام السابق من الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء الشعب العراقي. وإذا كان المقصود بالمصالحة بهذا المعنى، فكلنا معها وندعو لها، لأن الغرض هو فعلا طي الصفحات السوداء من تاريخ العراق وفتح صفحة جديدة، والبدء بالبناء والإعمار والاستمرار في العملية السياسية وبناء الدولة العراقية العصرية على أسس المواطنة والديمقراطية ودولة القانون، التي تعامل جميع مواطنيها بالتساوي في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص دون تمييز قومي أو ديني أو مذهبي أو جندري [ جنسي]. فنحن نعرف أن مئات الألوف من العراقيين اضطروا للانتماء إلى حزب البعث لا عن قناعة، بل ليحموا أنفسهم وعائلاتهم من بطش النظام والحصول على وظائف أو دراسة في جامعة... ألخ.، والعيش بسلام. وعلى هذا الأساس، فكان من النادر أن تجد عائلة عراقية لم يكن أحد أبنائها منتميا إلى حزب البعث ....quot;، quot; أما إذا كان الغرض من دعوة السيد المالكي هو عودة البعثيين إلى العملية السياسية كحزب سياسي، فإن هذه الدعوة هي بداية إلغاء جميع ما تحقق للشعب من مكاسب منذ سقوط النظام الفاشي يوم 9 نيسان ndash; أبريل ndash; وإهانة لأرواح الملايين من الشهداء الضحايا وذويهم، وستكون نتائجها كارثة حقيقية على الشعب العراقي وشعوب المنطقة.quot; وكتب أيضا في 28 تموز 2009 عن أكثرية البعثيين، ممن لم تتلطخ أديهم بالدم:quot; إنه ليس من الفائدة والعدالة منع نحو مليوني مواطن من حقوق المواطنة، وحرمان بلدنا من مساهماتهم الإيجابية في إعادة الإعمار، ومن بينهم عدد كبير من التكنوقراط ومن حملة الشهادات العالية وأصحاب خبرات نظرية وعملية في التنمية البشرية والاقتصادية والإدارية. أما الفريق الثاني من البعثيين، فهم الأقلية التي لا تتجاوز نسبتهم 1 بالمائة من مجموع أعضاء حزب البعث، من الذين ارتكبوا الجرائم البشعة ضد شعبنا، وما زالوا يواصلون إرهابهم في تخريب البلاد وقتل الناس الأبرياء باسم quot;مقاومة الاحتلالquot;...quot; وهؤلاء هم من يجب عزلهم وعدم المصالحة معهم.
أعتقد هذا تحليل عقلاني ومنصف وواقعي.
والآن، فإلى أين يسار بالعراق؟ سؤال كررته من قبل، واليوم أجد نفسي بلا أدنى تفاؤل يذكر، فكل الاحتمالات التي أتصورها، على ضوء تحليلي، لا تبشر بخير- متمنيا من كل قلبي لو جاءت الأيام بالنقيض التام ! وفي الحياة يا ما من مفاجآت؟!