لا شك في أننا لا نمتلك لحد اليوم وقائع دامغة وموثقة عن مسئولية كارثة الأربعاء الدموية، لتوجيه اتهام قطعي وذي مصداقية لهذا الطرف أو ذاك. ما لدينا هو فقط quot;اعترافاتquot; وسام كاظم، الموصوف بمسئول بعثي من تنظيم محمد يونس، وإن ما نشر من هذه الاعترافات يبدو شحيحا للغاية، ويفتح تساؤلات كبرى، منهاquot;:
إن الجهات التي قامت بالتحقيق هي نفس الجهات المقصرة، وبالتالي غير كفوءة لإجراء تحقيق دقيق ونزيه؛ جهات كان المفترض إزاحتها بعد الكارثة فورا، سواءً قائد عمليات بغداد، أو وزراء الداخلية والأمن. ثم من يصدق أن شخصا واحدا من المقدادية استطاع تدبير السيارة ورشوة نقاط التفتيش بعشرة آلاف دولار، وصولا لوزارة المالية؟؟ تفجير بهذا الحجم يتطلب اختراقات أمنية كبرى وقدرات فنية هائلة، وليس مجرد رشوة بعض نقاط التفتيش بمبلغ عشرة آلاف دولار. وبانتظار معلومات كافية، نقول إن اعتراف المذكور بأن الأوامر جاءته من سوريا، حيث مقر البعثيين، يؤكد مصداقية وجهة النظر التي اتهمت سوريا وإيران، بعد أن نربط بين هذا الاعتراف وبين بيانات وزير الدفاع العراقي عن إيرانية الأسلحة التي استخدمت في كل التفجيرات يوم الأربعاء الدامي، وليس أمام وزارة المالية وحدها. ونذكر أيضا زيارة الأسد لطهران مؤخرا، وتمجيده لما سماه quot;الانتصار الكبيرquot; لأحمدي نجاد، الذي quot; أغاض الغربيينquot;،ودعوة الطرفين إلى قيام محور رباعي يضم العراق وتركيا، أي استثناء بقية الدول العربية.
مع كل هذا فإن المعلومات المتوفرة لا تزال غير كافية لإصدار استنتاجات وأحكام قطعية دقيقة، أو أقرب للدقة. وزيادة في اللخبطة، يصدر حزب البعث، [أي جناح؟؟]، بيانا يكذب فيه ما ورد في الاعترافات، ويقول لو كانت لديهم كل تلك الإمكانات الهائلة لاستخدموها quot;ضد المحتلينquot;!! فمن نصدق!!
لكن، هل كل هذه المعلومات والاتهامات المتضاربة والرائجة، وكثرة من النقاط المجهولة، تجعل الكاتب العراقي المنصف والموضوعي مشلولا عن استخدام أدوات التحليل، وجمع القرائن، والسوابق، في محاولة أولية لإبداء وجهة نظر تقريبية؟
لا نعتقد. فكما أنه عند اقتراف جريمة قتل جنائية يبدأ المحققون بتجميع ما يتوفر من معلومات ومن دلائل، ومن سوابق، للتوصل تدريجيا إلى تشخيص المجرم، فكذلك يجوز لنا، في حالة جرائم سياسية كبرى، أن نبدي رأيا، لا نعتبره قطعيا، ولكن ربما يكون هو الأقرب للحقيقة، وبانتظار تكامل الوقائع والمعلومات والشهادات.

إن ما يجري منذ الأربعاء الدامي هو أن أطراف الحكم وسائر القيادات السياسية العراقية والبرلمانيين، راحوا يتبادلون الاتهامات، وصولا لتصريحات المالكي مؤخرا باتهام quot;أطراف سنية.quot;؟
إن هذه الظاهرة المثيرة للقرف والاشمئزاز، أي محاولة كل جهة وطرف التنصل من المسئولية، وإلقائها على الخصم والمعارض، أو المنافس، جعلت الكاتب اللبناني المعروف، حازم صاغية، يكتب في صحيفة (الحياة) مقالا بعنوان quot;مآسي العراق ولغاته الإتهاميةquot;، قائلا: quot;إن هناك ما هو أسوأ من الأعمال المجرمة الفظيعة التي ارتكبت حديثا في العراق: إنه اللغة الاتهامية في انقسامها المذهبي. فهذا، والحق يقال، أحد أسباب تلك الفظائع.quot;
عند وقوع جريمة ما نتساءل عادة: من تخدم الجريمة؟ في حالتنا يمكن القول إن أول الخاسرين هو المالكي نفسه، فقد اهتزت صورته، وتوترت الأجواء ضده داخل البرلمان والحكومة. وهذا ليس ما يخدم رئيس الوزراء. نقول هذا، دون تجاهل مسئوليته الكبرى كرئيس وزراء وقائد عام للقوات المسلحة، ومباهاته المنتفخة عن تحقيق الأمن، وتعاليه على القوات الأميركية ورفض طلب معونتها، إلا في اللحظة الأخيرة. كما يتحمل المسئولية للإسراع بإزالة الحواجز والسواتر، لاسيما أمام وزارة الخارجية، مندفعا بتفاؤله الشخصي المبالغ به عن الأمن.
لقد توجهت منذ اليوم الأول أصابع اتهام المالكي وحزبه للقاعدة والبعث، وأطراف سنية في البرلمان والحكومة. ولكن ها هو بعث الدوري ndash; صدام يكذّب الاتهام، ويقول إن دم العراقي حرام! ولكن ماذا عن اعتراف وسام كاظم؟ هل بعث عزة الدوري يحرم الدم العراقي ومحمد يونس يحلله؟؟ أما القاعدة، فلم نسمع لها صوتا ما بعد. أطراف quot;سنيةquot; في البرلمان والحكومة توجه الأصابع نحو الطرف الآخر. وثمة من يتهمون المجلس الأعلى بسبب رفض المالكي دخول الإتلاف الشيعي إلا بشروطه، وباعتبار أن هذه الهزة ستجبره على خفض سقف شروطه. أما quot;الدول الإقليميةquot;، فإن حزب الدعوة وساسة من الشيعة يتهمون السعودية بوجه خاص، ومعها مصر والأردن، دون ذكر إيران، وذلك بالعكس من ساسة وبرلمانيين آخرين، حيث يتهمون إيران والأحزاب والمليشيات الموالية لها. أما مولانا الفقيه، فضل الله اللبناني ndash; الخميني الولاء، فجاء بآخر ما في جعبته، باتهامه quot;غرفا سودا، أميركية وإسرائيليةquot; بالوقوف وراء التفجيرات المجرمة. وهذه اللغة منتظرة من حزب الله، الموالي أقصى حد لإيران، والذي يواصل تخريب لبنان، لحد تعطيل تشكيل حكومته رغم مرور ستة أسابيع على انتخابات خسرها مع حلفائه.

لقد كتبنا في إيلاف مقالا نناقش فيه هذه الاتهامات مجتمعة. لم ننزه القاعدة ولا البعث، ولم نقل إن السعودية لا تتدخل، وإن العدد الأكبر من الإرهابيين الإسلاميين في العالم كله ليسوا سعوديين، أو أن دولا خليجية لا تمول أحزابا عراقية؛ ولكننا نرى أن الطرف الإقليمي الأول، المتهم هو النظام الإيراني. فكوادر قيادية من القاعدة هناك، وأركان من البعث الصدامي، المطلوبين عراقيا، هم في سوريا، حليفة إيران وشريكتها في تخريب أمننا، والتي منها كان الإرهابيون، ولا يزالون، يتسللون. وها هو وزير الدفاع العراقي يعلن أن الأسلحة التي استخدمت في التفجيرات إيرانية الصنع، دون أن يتهم جهة حكومية إيرانية، [وفيلق القدس؟؟]. وكانت القوات العراقية قبل التفجيرات قد عثرت في البصرة على منصة صواريخ إيرانية استخدمت في قصف قاعدة أميركية، ومن قبل، اتهمت القوات الأميركية إيران بتزويد المليشيات بالعبوات الناسفة المتطورة، التي ألحقت أضرارا بالغة بالعجلات الحربية الأميركية. قلنا أيضا إن عمليات بهذا الحجم وquot;الإتقان القتالquot; لا تنفذها غير جهة تمتلك كل الخبرات والأسلحة النافذة للعمليات، واستخبارات محكمة، واختراقات في الجيش والشرطة،. وهذه لاختراقات موجودة، إيرانيا أو بعثيا، والفساد، المتفشي حتى داخل الجيش، يمكّن أية جهة معادية من شراء الضمائر، من أمنية وعسكرية. بعبارة، لابد أن يكون وراء الحدث جهاز دولة له كل القدرات. فمن يا ترى تكون؟!!أم مجموعة أجهزة، وهو مستبعد؟ من له النفوذ الأكبر داخل الحكومة والبرلمان وفي المجتمع؟ من سلح جيش المهدي؟ ومن يسلح عصائب أهل الحق؟ وأية دولة إقليمية يتسلل رجال مخابراتها وضباط فيلق قدسها بحرية داخل العراق، وخصوصا في الجنوب؟ قد تكون دول أخرى تصرف المليارات، ولكنها لا تمتلك عشر معشار القدرات والإمكانات الإيرانية داخل العراق، لاسيما، وثمة أحزاب حاكمة تسايرها مهما فعلت. ولا توجد دولة إقليمية أخرى يتسلل منها الإرهابيون، من سعوديين وغيرهم، غير سوريا، حليفة النظام الإيراني.

يقول المالكي إن التفجيرات تمت بسبب quot;الخلافات السياسيةquot;، ولكن الخلافات مع من؟ نعلم أن له خلافات كبرى مع الكتل والأحزاب المفترض أنها تمثل السنة، ولكن الخلاف الأكبر قبل التفجيرات كان مع المجلس الأعلى بعد حادثة المصرف، واندلع تبادل الاتهامات بينهما بقوة، ولا يزال المجلس الأعلى مصرا على تنفيذ الإرادة الإيرانية بإعادة الإتلاف الطائفي، وهي إرادة صريحة حملها علي لاريجاني عند زيارته للعراق، في حين كان المالكي عقبة، وقيل إنه اشترط إعادة رئاسته للوزارة.
هذا كان، ولا يزال رأينا الأول القابل للتمحيص، والمفتوح للمعلومات القادمة، لنميز الصحيح من الغلط، والحقيقة من المزاعم، فنكون منصفين أمام التاريخ والحقيقة. إنها وجهة نظر نراها، و تقابلها وجهات نظر أخرى عبرت عنها مقالات أخرى، وكلها مقاربات متضاربة بسبب عدم اكتمال لمعلومات الدقيقة. ونحن بانتظار هذه المعلومات، لو جاءتنا حقا، لنعرف بالضبط وبلا اتهامات اعتباطية الجهة أو الجهات الداخلية والإقليمية المسئولة عن الجريمة الكبرى.
ويبقى أن كل هذه الجهات التي يتهم بعضها بعضا، تتحمل مسئولية التدهور الأمني وتردي الأوضاع، سواء بوضع الرجل غير المناسب في منصب خطير، أو استمرار المحاصصة، أو التعتيم على نتائج التحقيق في عمليات إرهابية وجرائم اغتيال كبيرة مرت دون معرفتنا للفاعلين.

مهما يكن، وكما قلنا، فلننتظر ما ستأتي به الأيام. وبالانتظار، فإن القوى الوطنية السائرة تحت الخيمة العراقية يجب أن تطالب الحكومة وتضغط دون انقطاع:
1 - بالتطهير الجريء وغير الانتقائي على أساس مذهبي، للقوات المسلحة وقوى الأمن وسلك الشرطة؛
2 ndash; تشكيل لجنة تحقيق مختلطة للنظر في مسئولية التفجيرات، من قيادات الأحزاب والبرلمانيين، وبمشاركة أميركية إن أمكن، وإعلان النتائج الموثقة وذات المصداقية؛
3 - استقالة، أو إعفاء، كل الوزراء المعنيين بالأمن، وليس فقط إقصاء صاء مجموعة من الضباط، لا لأن هناك وزراء أو برلمانيين هم أصلا معارضون، قد يكون بينهم مغرضون، ولكن لأن الكارثة كانت بحجم يتطلب ذلك. ونحن نرى في الدول الديمقراطية أن أصغر فضيحة أو اختراق أمنيين يلزمان الوزير المختص بالاستقالة فورا؛
4 ndash; دعوة المالكي للقوات الأميركية للمساعدة داخل بغداد خاصة، وإعادة وضع بعض الحواجز والسواتر في مناطق حساسة جدا؛
5 ndash; اتخاذ اللازم لإغاثة العائلات المنكوبة إغاثة متكاملة؛
6 ndash; وقف التدخل الإقليمي، والإيراني بوجه أخص؛
7 ndash; تأجيل الانتخابات لحين تحسين الوضع الأمني تحسينا حقيقيا، وعدم إجرائها في مناسبات دينية مذهبية، كعاشوراء كما يريدون.

هذه بضع ملاحظات، والموضوع مفتوح على أية حال، وإن نقصان المعلومات لا يعفي، وكما قلنا، الكتاب العراقيين من واجب استعمال أدوات التحليل لإبداء وجهة نظر ما، من منطلق الحرص الوطني، وربما المساهمة البسيطة في الطريق نحو كشف كل الحقائق.