كان نصيب العراق وشعبه من المآسي في العقود الأخيرة حالة استثنائية من حيث حجم المآسي، وفداحتها، وعواقبها: من سياسية ونفسية واجتماعية وأخلاقية. بلغت الذروة مع صعود صدام للسلطة، بحروبه ومغامراته، الإقليمية والداخلية، وباستخدام القهر الفاشي الدموي، وسياسة التمييز الطائفي والعرقي. واليوم، إلى أين وصلنا بعد أكثر من ست سنوات من سقوط ذلك النظام؟ ليس موضوعا نعالجه للمرة الأولى، بل لقد تناولناه مرارا وتكرارا، ولكن أخبار العراق الجديدة والمتتالية تبيح العودة مجددا ببعض الملاحظات. أعتقد أنه ليس من المبالغة القول أننا لو قارنا العهد الملكي بما يجري اليوم، لقلنا إن ذلك كان العهد الذهبي، وبرغم كل المظالم، والخطايا الفادحة، لاسيما الوضع المأساوي للفلاحين.
لقد كدت أن أعنون مقالي: quot;البحث عن العراقquot;، قاصدا سنوات الأربعين والخمسين، وعام ثورة الزعيم عبد الكريم قاسم، لا أملا في عودة تلك الحقب،فهذا أولا محال، والأهم، أنه يجب أن نتطلع دوما لمستقبل أفضل، وأفضل، وغسل خطايا الماضي القريب. في كل العهود الملكية لم نكن راضين عن أي موقف وإجراء حكوميين. كنا لا ندرس تلك الخطوات، بل ندينها حالا باعتبارها quot;في خدمة الاستعمار والإقطاعquot;.
لم ترض المعارضة الوطنية بكل تفرعاتها عن فيصل الأول، وهو الحاكم غير العراقي، الذي أصبح أكثر حرصا على مصلحة العراقيين من معظم قياداتهم. القيادات الدينية الشيعية كانت قد دعت لمقاطعة دخول شيعي في الوظيفة، ولكن فيصل الأول سعى، وحسب إمكاناته، لقلب المعادلة بتقريب مثقفين شيعة، كما فعل مع الشاعر الكبير، محمد مهدي الجواهري، بتوظيفه في البلاط بالقرب منه.
وقفنا ضد تأسيس مجلس الإعمار، واعتبرناه مؤامرة لخدمة الإقطاع، وعندما نعود اليوم، فسوف نجد أنه كان لغرض تطوير العراق.
ليس هنا مجال المضي قدما في سرد محطات مضيئة لذلك العهد، ولا لما تعرض له الزعيم الوطني، الفقيد عبد الكريم قاسم، من تآمر قوى سياسية ودول إقليمية، ومن تطرف وسلبية عناصر تقدمية وديمقراطية؛ فخسرنا الثورة، ولم نتمتع بالثمار المنتظرة.
صدام عبث بكل شيء مع الثمانينات، ولا يجهل عراقي ما اقترفه ذلك النظام من جرائم ومظالم. الحديث هنا هو، وكما قلت: أين أصبحنا اليوم؟؟
في معظم المآسي التي تعرض لها العراق الحديث كانت المسئولية الحاسمة تقع على القيادات الحاكمة، وعلى التآمر الخارجي. وهذا بالضبط ما يقع اليوم.
حديث اليوم الساخن في العراق هو عن التفجيرات ومسئوليتها، والحرب الدبلوماسية المشتعلة مع سوريا بسبب ذلك. ومن جانبنا، لا نشك أبدا في الدور السوري منذ سقوط صدام، والوقائع المثبتة كانت موجودة قبل التفجيرات، وعلى الأخص تسلل الإرهابيين من داخل الحدود السورية. ونحن نعرف أن ذبابة لا تتسلل من الأراضي السورية بدون علم أجهزة مخابرات النظام. ومعسكر تدريب اللاذقية كان معروفا وجوده قبل التفجيرات. وإذا كانت حكومة المالكي مصيبة في توجيه الاتهام، فإن ما يضعها هي في قفص التساؤل: هو صمتها عن الدور الإيراني، الأخطر، بل والمحوري، في الإرهاب المنصب على العراقيين. ولا ندري لماذا صمتت الحكومة عن حقيقة أن الأسلحة المستخدمة في التفجيرات كانت إيرانية الصنع؟! أما آخر الأمثلة، فحالة تسليم الإرهابي السعودي، الحبردي، نفسه للسلطات السعودية بعد عودته من إيران. وكان الحبردي قد غادر الإمارات في العام الماضي لإيران للانضمام لعناصر القاعدة هناك. وبهذه المناسبة، كان واجبا على مفتي السعودية، وهو يفتي أمس بتحريم قتل المسلمين، أن يخص العراقيين أيضا، حيث أن أمثال هذه الفتوى لا تصدر إلا عندما تكون السعودية هي المستهدفة بالإرهاب.
ومن الأخبار الجديدة أيضا قيام المليشيات الحزبية بحملة تجنيد في جنوب العراق قبل الانتخابات، وخصوصا في الناصرية والكوت. وقد عثرت قوات الأمن على عدة مخابئ لأسلحة إيرانية جديدة، ومنها منصات صواريخ، ومنصات إطلاق شحنات ناسفة، وأجهزة كاتمة للصوت، وأسلحة آلية، وقنابل تزرع على جانب الطريق ومتفجرات. وقال الرائد عزيز العمارة ، قائد قوات شرطة الرد السريع في محافظة واسط الجنوبية لمندوب رويتر، إن أعضاء المليشيات يحاولون أحيانا نزع البطاقات التي تشير لإيران، لكن بالإمكان معرفة الكلمات من الأجزاء المتبقية. فلماذا صمت حكومة المالكي عن جميع هذه الأدلة الثبوتية عن محورية الدور الإيراني في نشر الإرهاب والفوضى والطائفية في العراق؟! وكيف تسمح لمتكي، وزير خارجية إيران، ومن قبله علي لاريجاني، بدعوة كل الأحزاب الشيعية الحاكمة، و بلا استثناء المالكي، للتجمع في إتلاف جديد؟! هل كانت ستقف نفس الموقف لو جاء الطلب من الأميركيين مثلا؟؟
ننتقل إلى قضية أخطر بكثير جدا، تناولناها أيضا من قبل، وهي قضية المياه، والدور الإيراني، بجانب دوري سوريا وتركيا. هنا أيضا صمت الحكومة غريب مع أنها دخلت مفاوضات حول الموضوع مع تركيا. فالقضية تخص حياة وعيش أكثر من مليوني عراقي. إن تصرف إيران هذا هو، كما قال كاتب عراقي، quot; إرهاب بيئي... يهدد أرض الرافدين بالعطش والتصحر، وتدمير الحياة النباتية والمعيشية لملايين الناسquot;، [ من مقال لداود البصري] . فمتى تعي الحكومة، وكل القيادات العراقية، لهذا الخطر الداهم، بدلا من الانشغال بالانتخابات، والصراعات على المناصب والحصص؟!!
إن البصرة، التي كانت ثغر العراق، تشكو اليوم شحة مياه شط العرب، فماذا تفعل محافظتها الموقرة؟! تصدر قرارا بتطويل لحى الموظفين!! بعد قرارها بمنع الخمور. إن محافظة الأحزاب المذهبية الحاكمة هذه تزيد في التضييق على حريات المواطن، بينما يعاني من قلة حادة في مياه الإسالة، والتفاقم في أزمة الكهرباء.
خبر آخر مفاجئ، هو استدعاء الخارجية اليمنية للسفير العراق، وتسليم رسالة احتجاج لدعم الحكومة العراقيين للمتمردين الحوثيين. الحكومة لم تعلق، ولكن السيدة جنان العبيدي، عضو الإتلاف العراقي، تعترف بوجود مكتب للحوثيين في النجف بحجة تنظيم زياراتهم للعتبات المقدسة!! علما بأن إيران هي التي تقف وراء دعم وتسليح الحوثيين ndash; إذن، فمكتب النجف من ذاك!!
أخيرا، وليس آخرا، هذا التقرير الدولي المثير، الذي يزعم أن موجة من الإعدامات السرية نفذت في العراق وهي تتواصل، وأن هناك ألف سجين محكوم عليهم بالإعدام، بينهم أمهات. لسنا ضد حكم الإعدام. كلا. فهو العقوبة التي يستحقها كل قاتل خطر، وكل إرهابي اعتقل متلبسا بتفجير عشرات وحتى مئات الأبرياء. لا نعرف مدى دقة التقرير المذكور، والحكومة مدعوة للإجابة. غير أن ما يجب قوله هو أن الرأي العام العراقي والعالم يجب أن يعرفا الحقائق، وأخبار المحاكمات يجب أن تكون شفافة، وأن تقوم الحكومة بإعلام المواطنين أولا بأول بما تصدره من أحكام سياسية، بالإعدام أو بعقوبات أخرى. ونحن بانتظار توضيحات الحكومة تعليقا على التقرير المذكور، خصوصا وثمة أخبار أخرى انتشرت عن سجون سرية، وعن مشاركة عناصر فيلق القدس الإيراني في بعض الاستجوابات السرية لبعض المعتقلين، وقد أشير، وبوجه محدد، للمختطفين من معسكر أشرف خلال الحملة الحكومية الوحشية على سكانه.
التعليقات