أبرزت حملة اوباما الانتخابية قدرته على الخطاب الاستعراضي الشعبوي، ومدى اعتماده على ماكنة العلاقات العامة. وكان قد صرف على الحملة الإعلامية أضعاف ما صرفه المرشحون من قبله. كما أنه كان، ولا يزال، يبني أكثر مما يمكن على علاقاته الشخصية ببعض الرؤساء، ولاسيما الروسي ميدفييف والإسلامي أردوغان. وهو الذي شجع الأخير، في رسائل خاصة، على التوسط لدى إيران، فكانت نتيجة الوساطة التركية ndash; البرازيلية اتفاقا رفضه الغرب حالا، كما رفضته وكالة الطاقة. وقد اضطر لسلاح العقوبات بعد ضياع عام ونصف على سياسة مد اليد، والرسائل الودية، وهو سلاح، برغم تأثيره، لن يكون بعد الآن كافيا لردع إيران ووقف غطرستها. كما اصطدمت خطب أوباما ووعوده الشعبوية، ومحاضراته quot;الأخلاقيةquot;، بمعطيات تصاعد خطر الإرهاب داخل أميركا نفسها، ومن ثم احتمال عدم إمكان تحقيق غلق معتقل غوانتينامو في الموعد الذي وعد به مئات المرات.
أكثر المرحبين بسياسة مد اليد و quot;فتح النافذةquot; في التعامل مع الأعداء والخصوم، هم، بعد اليسار الغربي، الإسلاميون، وفريق من الكتاب العرب، تقوده كراهية مهووسة للإدارة الأميركية السابقة. ومن يتابع، ولحد اليوم، مقالات لفيف من الكتاب العرب، وفي صحف خليجية خاصة، يرى الكم الهائل من المغالطات السياسية والانتقائية. فهناك من يعرضون رد بوش الابن على جرائم طالبان والقاعدة في 11 سبتمبر بأنه quot;مس العالم الإسلاميquot;، وكأن القاعدة وطالبان والإخوان وخامنئي هم ممثلو الشعوب المسلمة. أما حرب تحرير العراقيين من صدام، فهي، وكما قلنا مرارا، عقدة العقد عند هؤلاء. ولذلك رحبوا بأوباما، المعارض شبه الوحيد في حزبه للحرب العراقية. ولهذا أيضا، كانوا، ولا يزالون، يطالبون بمواصلة quot;فتح النافذةquot; مع إيران وطالبان، إذ لا عدو للعرب والمسلمين غير إسرائيل واليهودية الدولية- علما بأن مشكلة العرب مع إسرائيل هي مشكلة فلسطينية في الأساس، مشكلة احتلال ودولة فلسطينية، في حين أن مشكلة إيران هي مع المجتمع الدولي، كما أنها تتدخل في أرجاء المنطقة، ومنها الخليج، وتصدر العنف والطائفية والمخدرات. ولكن لا عمرو موسى يجرؤ على إدانة إيران، ولا معظم دعاة quot;إبقاء النافذة مفتوحةquot;!! بل، بدلا من المطالبة بالحزم، يطالب هؤلاء بمواصلة سياسة مد اليوم للخمينيين مع أن منهم من يعلمون تماما عبث المحاولات بعد فشل المساعي الدولية منذ 2006. ونقول حبذا لو طالب هؤلاء الرئيس الأميركي بالانفتاح ولو قليلا على دعاة العلمانية وحقوق المرأة والحرية الدينية في العالم الإسلامي، بدلا من فتح النوافذ مشرعة أمام المتطرفين وأنظمتهم لا غير!
في هذه المقالة نتوقف بوجه خاص عند حالتين من الأحداث الجديدة: العلاقات مع روسيا، والعلاقات مع بريطانيا، على أن نعود في مقال تال إلى قضايا أخرى.

أولا-
أما عن العلاقات الأميركية- الروسية، فما أن انتهت زيارة ميدفييف لواشنطن بعد قبوله دعوة أوباما المتلفزة لأكلة همبرغر في quot;مكدولاندquot;- [ واحدة من حركات أوباما الاستعراضية الشعبوية]- حتى تفجرت فضيحة التجسس الروسي على أمن الولايات المتحدة. فقد اعتقل البوليس الأميركي مجموعة روس من عشرة تبين أنهم كانوا يقومون بمهمات جاسوسية في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، ومنذ سنوات.
الإدارة الأميركية، وكما كتبنا مرارا، تراهن كثيرا على quot;شراكةquot; روسيا والصين، ولكن بتقديم تنازلات كبيرة لموسكو منذ تبؤ أوباما للرئاسة. والرئيس الأميركي لابد ويعرف أن حاكم روسيا الحقيقي هو بوتين، رجل المخابرات المحترف والعريق، وأن روسيا بوتين تتبع سياسة ستالينية بطبعة جديدة ملطفة، في السياستين الداخلية والخارجية، مع فارق وجود اقتصاد السوق بدل تخطيط الدولة مركزيا للاقتصاد. ونعرف قضم روسيا لمقاطعتين من جورجيا، ونجاحها في حمل الميالين لها إلى السلطة في الانتخابات الأوكرانية الأخيرة. كما لا تزال روسيا تستخدم سلاح الغاز ضد بيلروسيا. ولحد اليوم، لم تتكشف بعد كل أسرار كارثة الطائرة البولونية التي أودت بعشرات من النخب السياسية والاقتصادية والعسكرية للبلاد على الأراضي الروسية. كما نلمس الدور الروسي في الانقلاب الذي حدث في قرغيزستان.
إن جميع كلمات أوباما الناعمة مع الروس، والعلاقات المحمية مع ميدفييف، لن تثنيهم عن السعي، وبكل أسلوب ممكن، لاستعادة النفوذ الروسي على الجمهوريات السابقة والدول الشرقية التي كانت سائرة عهدا ما في الفلك السوفيتي.
إن انحياز روسيا للعقوبات الدولية على طهران شيء جيد جدا، ومهم، ولكن روسيا والصين سيق ووافقتا من قبل، وأكثر من مرة، على العقوبات ضد إيران. ولم توافق الدولتان على العقوبات الدولية الأخيرة إلا بعد حذف بنود أساسية من مشروع القرارات الأصلي. وها قد بدأت الاحتجاجات الروسية على العقوبات الإضافية من جانب أميركا والاتحاد الأوروبي. ونعرف أنه، برغم أهمية هذه العقوبات، فإنها لن تثني النظام الإيراني عن مواصلة مشروعها العسكري، وعن الاستمرار في تخريب المنطقة. بل، وإن إيران تتعاون مع القاعدة نفسها كما في العراق، وتتدخل حتى في حرب أفغانستان، كما كشف الجنرال الأميركي المقال ماكريستال. وكان يكتب للبيت الأبيض أنهم يواجهون دعما تسلحيا إيرانيا لطالبان، وأن الحرب الدائرة فعلا هي أولا مع طالبان، في حين أن أوباما ومساعديه يؤكدون أنها حرب مع القاعدة فقط.
إن روسيا بوتين أكثر خبرة ودهاء من أوباما ومستشاريه ونائبه، وإن استعراضية الهمبرغر أو مثيلاتها لم تمنع بوتين من دس عملائه داخل الولايات المتحدة بما يذكر بالسياسة السوفيتية خلال الحرب الباردة.
العلاقات بين البلدين لن تتأثر كثيرا بهذه القضية، ونأمل ألا تتوتر، فبقاء العلاقات الجيدة مهم جدا لأمن العالم، ولكن قضية التجسس هذه يجب أن تعلم الإدارة الأميركية بأن تنزع عنها كثيرا من الأوهام، وحسن الظن، والتبسيط، والمثاليات في سياستها الخارجية.